تنبيه
الفتحة في قوله : يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصبا على الظرفية ، ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك ، والأجود أن تكون فتحة
يوم ولد فتحة بناء ، وفتحة
ويوم يموت ويوم يبعث فتحة نصب ; لأن
بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع والجملة الاسمية أجود من بنائه ، كما عقده في الخلاصة بقوله :
وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا وقبل فعل معرب أو مبتدا
أعرب ومن بنى فلن يفندا
والأحوال في مثل هذا أربعة : الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصليا وهو الماضي ; كقول
نابغة ذبيان :
على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود ، وإعرابه جائز .
الثاني : أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عارضا ، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة ، كقول الآخر :
لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم
وحكم هذا كما قبله .
الثالث : أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب ، كقول
أبي صخر الهذلي :
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
فإعراب مثل هذا أجود ، وبناؤه جائز .
الرابع : أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية ، كقول الشاعر :
[ ص: 383 ] ألم تعلمي يا عمرك الله أنني كريم على حين الكرام قليل
وقول الآخر :
تذكر ما تذكر من سليمى على حين التواصل غير دان
وحكم هذا كما قبله ، واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي ، وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى ، كقوله :
ويوم يموت ويوم يبعث ، فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية ، فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع ، وأجاز
ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية بقلة ، كقوله تعالى :
يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] ، وقول
سواد بن قارب :
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض ، وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة :
ويوم يبعث حيا ، قال
أبو حيان : فيه تنبيه على كونه من الشهداء ، لقوله تعالى فيهم :
بل أحياء عند ربهم يرزقون [ 3 \ 169 ] .
قال مقيده عفا الله عنه : وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها ، وصف لصاحبها ، وعليه فبعثه مقيد بكونه حيا ، وتلك حياة الشهداء ، وليس بظاهر كل الظهور ، والله تعالى أعلم .
هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات
يحيى ، وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع ، كقوله في " آل عمران " :
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ 3 \ 39 ] ، ومعنى كونه
مصدقا بكلمة من الله أنه مصدق
بعيسى ، وإنما
قيل لعيسى كلمة ; لأن الله أوجده بكلمة هي قوله " كن " فكان ، كما قال تعالى :
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم الآية [ 4 \ 171 ] ، وقال :
إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه الآية [ 3 \ 45 ] ، وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى :
مصدقا بكلمة من الله ، وقيل : المراد بكلمة : الكتاب ، أي : مصدقا بكتاب الله ، والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد ، كقوله :
وتمت كلمة ربك الحسنى [ 7 \ 137 ] ، وقولـه :
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ 6 \ 115 ] ،
[ ص: 384 ] وقولـه :
كلا إنها كلمة هو قائلها [ 23 \ 100 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وباقي الأقوال تركناه لظهور ضعفه ، والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا ، وقوله "
وسيدا " وزن السيد بالميزان الصرفي فيعل وأصل مادته ) س و د ( سكنت ياء الفعيل الزائدة قبل الواو التي هي في موضع العين ، فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :
إن يسكن السابق من واو ويا
البيتين المتقدمين آنفا ، وأصله من السواد وهو الخلق الكثير ، فالسيد من يطيعه ، ويتبعه سواد كثير من الناس ، والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه : ساد يسود بالواو ، وتقول سودوه إذا جعلوه سيدا ، والتضعيف يرد العين إلى أصلها ، ومنه قول
عامر بن الطفيل العامري :
وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وقال الآخر :
وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد
وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه ، والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس ، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
الحسن بن علي رضي الله عنهما "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008175إن ابني هذا سيد " الحديث ، وأنه صلى الله عليه وسلم : لما جاء
nindex.php?page=showalam&ids=307سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في
بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003070قوموا لسيدكم " والتحقيق في
معنى قوله : وحصورا [ 3 \ 39 ] ، أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلا منه ، وانقطاعا لعبادة الله ، وكان ذلك جائزا في شرعه ، وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج وعدم
التبتل ، أما قول من قال : إن الحصور فعول بمعنى مفعول ، وأنه محصور عن النساء ; لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن فليس بصحيح ; لأن العنة عيب ونقص في الرجال ، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها ، فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا ، واختاره غير واحد من العلماء ، وقول من قال : إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال
الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
قول ليس بالصواب في معنى الآية ، بل معناها هو ما ذكرنا وإن كان إطلاق الحصور
[ ص: 385 ] على ذلك صحيحا لغة ، وقوله : " ونبيئا " على قراءة
نافع بالهمزة معناه واضح ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، من النبأ وهو الخبر الذي له شأن ; لأن الوحي خبر له شأن يخبره الله به ، وعلى قراءة : بالياء المشددة ، فقال بعض العلماء : معناه كمعنى قراءة
نافع ، إلا أن الهمزة أبدلت ياء وأدغمت فيها ، للياء التي قبلها ، وعلى هذا فهو كالقراءتين السبعيتين في قوله :
إنما النسيء زيادة في الكفر [ 9 \ 37 ] ، بالهمزة وتشديد الياء ، وقال بعض العلماء : هو على قراءة الجمهور من النبوة بمعنى الارتفاع لرفعة النبي وشرفه . والصالحون : هم الذين صلحت عقائدهم ، وأعمالهم ، وأقوالهم ، ونياتهم ، والصلاح ضد الفساد ، وقد وصف الله تعالى
يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة " الأنعام " في قوله :
وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين [ 6 \ 85 ] .