[ ص: 398 ] مسألة
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
وهزي إليك بجذع النخلة الآية ، أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا ، وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة أن الأخذ
بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ; لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ، فهو متوكل على الله ، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر ، ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف .
ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى :
قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الآية [ 21 \ 69 ] ، فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجزأ إلى معان مختلفة ، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رمادا من حرها في الوقت الذي هي كائنة بردا وسلاما على
إبراهيم ، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا .
ومن أوضح الأدلة في ذلك : أنه ربما جعل الشيء سببا لشيء آخر مع أنه مناف له ، كجعله ضرب ميت
بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سببا لحياته ، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته ؛ إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ، وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، ولا يقع تأثير ألبتة إلا بمشيئته جل وعلا .
ومما يوضح أن
تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن
يعقوب :
وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [ 12 \ 67 ] ، أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب ، وتسبب في ذلك بالأمر به ; لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلا أبناء رجل واحد ، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام ، فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطيا للسبب في السلامة من إصابة العين ; كما قال غير واحد من علماء السلف ، ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه :
[ ص: 399 ] وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] ، فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله :
لا تدخلوا من باب واحد ، وبين التوكل على الله في قوله :
عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ، وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته ، والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع ، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع ، وقد قال بعضهم في ذلك :
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه
جنته ولكن كل شيء له سبب
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب ، قالوا : لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله
مريم وقت نفاسها
بعيسى ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع بن خثيم وغيره ، والباء في قوله :
وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] ، مزيدة للتوكيد ; لأن فعل الهز يتعدى بنفسه ، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن
قوله هنا وهزي إليك بجذع النخلة ; لأن المتبادر من اللغة أن الأصل : وهزي إليك جذع النخلة ، وقوله تعالى :
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] ، وقوله :
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم الآية [ 22 \ 25 ] ، وقوله :
فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون الآية [ 68 \ 5 - 6 ] ، وقوله : " تنبت بالدهن " ، على قراءة
ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع " أنبت " الرباعي ; لأن الرباعي الذي هو " أنبت ينبت " بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف ، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة ، ونظير ذلك من كلام العرب قول
أمية بن أبي الصلت الثقفي :
إذ يسفون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
لأن الأصل : يسفون الدقيق ، فزيدت الباء للتوكيد .
وقول الراعي :
هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور
فالأصل : لا يقرأن السور ، فزيدت الباء لما ذكر .
وقول
يعلى الأحول اليشكري أو غيره :
[ ص: 400 ] بواد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
فالأصل : وأسفله المرخ ; أي : وينبت أسفله المرخ ، فزيدت الباء لما ذكر .
وقول
الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجردا
فالأصل : ضمنت رزق عيالنا .
وقول الراجز :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي : نرجو الفرج .
وقول
امرئ القيس :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فالأصل : هصرت غصنا ; لأن هصر تتعدى بنفسها .
وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب .
وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " تساقط " تسع قراءات ، ثلاث منها سبعية ، وست شاذة ، أما الثلاث السبعية فقد قرأه
حمزة وحده من السبعة " تساقط " بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف ، وأصله : تتساقط ; فحذفت إحدى التاءين ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل ، وقرأه
حفص وحده عن عاصم " تساقط " بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين ، مضارع ساقطت تساقط ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " مفعول به للفعل الذي هو : تساقط هي ، أي النخلة ، رطبا ، وقرأه بقية السبعة " تساقط " بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أصله : تتساقط ; فأدغمت إحدى التاءين في السين ، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة
حمزة .
وغير هذا من القراءات شاذ .
وقوله في هذه الآية الكريمة :
رطبا جنيا الجني : هو ما طاب وصلح لأن يجنى فيؤكل ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء : أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس ، ولم يبعد عن يدي متناوله .