قوله تعالى :
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .
[ ص: 419 ] اعلم أولا أن لفظ " ما كان " يدل على النفي ، فتارة يدل ذلك النفي من جهة المعنى على الزجر والردع ، كقوله تعالى :
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله الآية [ 9 \ 120 ] ، وتارة يدل على التعجيز ، كقوله تعالى :
آلله خير أم ما يشركون أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها الآية [ 27 \ 59 - 60 ] .
وتارة يدل على التنزيه ، كقوله هنا :
ما كان لله أن يتخذ من ولد ، وقد أعقبه بقوله : سبحانه أي : تنزيها له عن اتخاذ الولد وكل ما لا يليق بكماله وجلاله ، فقوله : ما كان لله بمعنى : ما يصح ولا يتأتى ولا يتصور في حقه جل وعلا أن يتخذ ولدا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، والآية كقوله تعالى :
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 92 ] وفي هذه الآية الرد البالغ على
النصارى الذين زعموا المحال في قولهم "
عيسى ابن الله " وما نزه عنه جل وعلا نفسه هنا من الولد المزعوم كذبا -
كعيسى - نزه عنه نفسه في مواضع أخر ، كقوله تعالى :
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم إلى قوله :
إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد الآية [ 4 \ 171 ] ، والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة ، كقوله تعالى :
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 88 - 91 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة " الكهف " .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
إذا قضى أمرا [ 19 \ 35 ] أي : أراد قضاءه بدليل قوله :
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] ، وقوله تعالى :
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، وحذف فعل الإرادة لدلالة المقام عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب ، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] أي : إذا أردتم القيام إليها ، وقوله تعالى :
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ 16 \ 98 ] ، أي : إذا أردت قراءة القرآن ، كما تقدم مستوفى .
وقوله تعالى في الآية التي نحن بصددها :
ما كان لله أن يتخذ من ولد زيدت فيه لفظة " من " قبل المفعول به لتأكيد العموم ، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي
[ ص: 420 ] إذا زيدت قبلها لفظة " من " لتوكيد العموم كانت نصا صريحا في العموم ، وتطرد زيادتها للتوكيد المذكور قبل النكرة في سياق النفي في ثلاثة مواضع : قبل الفاعل ، كقوله تعالى :
ما أتاهم من نذير [ 28 \ 46 ] ، وقبل المفعول ، كهذه الآية ، وكقوله :
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه الآية [ 21 \ 25 ] ، وقبل المبتدأ كقوله :
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .