قوله تعالى :
قال أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا
بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن
إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين ، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ، ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان - خاطبه هذا الخطاب العنيف ، وسماه باسمه ولم يقل له " يا بني " في مقابلة قوله له " يا أبت " وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان ، أي : معرض عنها لا يريدها ; لأنه لا يعبد إلا ال له وحده جل وعلا ، وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه ) قيل بالحجارة وقيل باللسان شتما ( والأول أظهر ، ثم أمره بهجره مليا أي : زمانا طويلا ، ثم بين أن
إبراهيم قابل أيضا جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله : قال
سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، وخطاب
إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله :
سلام عليك قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم ، كما قال تعالى :
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقال تعالى :
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وما ذكره تعالى هنا من أن
إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة ، قابله أبوه بالعنف والشدة بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم ، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجئوا إلى استعمال القوة ، كقوله تعالى عن
إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم :
[ ص: 428 ] لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [ 21 \ 65 ] ، قال :
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [ 21 \ 67 ] ، فلما أفحمهم بهذه الحجة لجئوا إلى القوة ، كما قال تعالى عنهم :
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] ، ونظيره قوله تعالى عن
قوم إبراهيم :
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار الآية [ 29 \ 24 ] ، وقوله عن
قوم لوط لما أفحمهم بالحجة :
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله :
سلام عليك ، يعني : لا ينالك مني أذى ولا مكروه ، بل ستسلم مني فلا أوذيك ، وقوله :
سأستغفر لك ربي ، وعد من
إبراهيم لأبيه باستغفاره له ، وقد وفى بذلك الوعد ، كما قال تعالى عنه :
واغفر لأبي إنه كان من الضالين [ 19 \ 47 ] ، وكما قال تعالى عنه :
ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب [ 14 \ 41 ] .
ولكن الله لما بين له أنه عدو لله تبرأ منه ، ولم يستغفر له بعد ذلك ، كما قال تعالى :
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] ، وقد قال تعالى :
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه [ 9 \ 114 ] ، والموعدة المذكورة هي قوله هنا :
سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، ولما اقتدى المؤمنون
بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين ، واستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه
أبي طالب أنزل الله فيهم :
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] ، ثم قال :
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية [ 9 \ 114 ] ، وبين في سورة " الممتحنة " أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الأسوة
بإبراهيم ، والأسوة الاقتداء ، وذلك في قوله تعالى :
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله - إلى قوله -
إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك [ 60 \ 4 ] ، أي : فلا أسوة لكم في
إبراهيم في ذلك ، ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم :
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية [ 9 \ 113 ] ، بين الله تعالى أنهم معذورون في ذلك ; لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله ، وذلك في قوله :
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] .
وقوله في هذه الآية :
أراغب أنت عن آلهتي ، يجوز فيه أن يكون " راغب " خبرا
[ ص: 429 ] مقدما ، و " أنت " مبتدأ مؤخرا ، وأن يكون " أراغب " مبتدأ ، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين : الأول أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير ، والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم ، الوجه الثاني هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو " أراغب " ، وبين معموله الذي هو " عن آلهتي " بما ليس بمعمول للعامل ; لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ ، بخلاف كون " أنت " فاعلا ، فإنه معمول " أراغب " فلم يفصل بين " أراغب " وبين " عن آلهتي " بأجنبي ، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره ، والرغبة عن الشيء : تركه عمدا للزهد فيه وعدم الحاجة إليه ، وقد قدمنا في سورة " النساء " الفرق بين قولهم : رغب عنه ، وقولهم : رغب فيه . في الكلام على قوله تعالى :
وترغبون أن تنكحوهن الآية [ 4 \ 127 ] ، والتحقيق في قوله " مليا " أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول
مهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
وأصله واوي اللام ; لأنه من الملاوة وهي مدة العيش ، ومن ذلك قيل الليل والنهار الملوان ، ومنه قول
ابن مقبل :
ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلى الملوان
وقول الآخر :
نهار وليل دائم ملواهما على كل حال المرء يختلفان
وقيل : الملوان في بيت
ابن مقبل : طرفا النهار .
وقوله :
إنه كان بي حفيا ، أي : لطيفا بي ، كثير الإحسان إلي ، وجملة :
واهجرني عطف على جملة
لئن لم تنته لأرجمنك ، وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول
امرئ القيس :
وإن شفائي عبرة إن سفحتها فهل عند رسم دارس من معول
فجملة " وإن شفائي " خبرية ، وجملة " وهل عند رسم " . . . إلخ إنشائية معطوفة عليها .
وقول الآخر أيضا :
تناغي غزالا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وهذا هو الظاهر كما قاله
أبو حيان عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الكشاف : فإن
[ ص: 430 ] قلت : علام عطف واهجرني ؟ قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه " لأرجمنك " أي : فاحذرني واهجرني ; لأن لأرجمنك تهديد وتقريع . اهـ .