المسألة الثالثة
اعلم : أن
السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيء خاص ، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم ، وضابط هذا المسلك عند الأصوليين أمران ، الأول : هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضا بعضها إن شاء الله تعالى ، وزاد بعضهم أمرا ثالثا وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي ، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير ، والحاصل : أن هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين ، الأول : حصر أوصاف المحل ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة ، فإن كان الحصر والإبطال معا قطعيين فهو دليل قطعي ، وإن كانا ظنيين أو أحدهما ظنيا فهو دليل ظني ، ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطعيين قوله تعالى :
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ; لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه ، لأنهم إما أن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا رابع ألبتة ، وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه : فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه ، وقد حذف في الآية لظهوره ، فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها ، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين ; لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم ، والقطعي منه لا يمكن الاختلاف فيه ، وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل ، وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه ، والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم : هذا وصف يصح إبطاله ، ويقول الآخر : هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلا في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلا المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلا : إما أن يكون
علة تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أو هما وغلبة العيش به أو المالية والملكية . فيقول المالكي : غير الاقتيات والادخار باطل ، ويدعي أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض ، ويقول
[ ص: 496 ] الحنفي والحنبلي : غير الكيل من تلك الأوصاف باطل ، والكيل : هو العلة التي هي مناط الحكم ، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم ، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا : وكذلك كل ما يكال أو يوزن ، وبالحديث الصحيح الذي فيه ، وكذلك الميزان . كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا .
ويقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : غير الطعم باطل ، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم ، ويستدل بحديث
معمر بن عبد الله عند
مسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007206الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث . كما تقدم إيضاحه أيضا في البقرة ، وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل ، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله :
وإن يكن لعلتين اختلفا تركب الأصل لدى من سلفا
وأشار إلى مركب الوصف بقوله :
مركب الوصف إذا الخصم منع وجود ذا الوصف في الأصل المتبع والقياس المركب بنوعيه المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافا لبعض الجدليين ، وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار ، أشار في مراقي السعود بقوله :
ورده انتفى وقيل يقبل وفي التقدم خلاف ينقل والضمير
في قوله : " ورده " راجع إلى المركب بنوعيه ، وهذا هو الحق ، فلا تنهض الحجة بقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إن العلة في تحريم الربا في البر الطعم ، على الحنفي والحنبلي القائلين إنها الكيل كالعكس ، وهكذا ، أما في حق المجتهد ومقلديه فظنه المذكور حجة ناهضة له ولمقلديه ، واعلم أن لحصر أوصاف المحل طرقا ، منها أن يكون الحصر عقليا كما قدمنا في آية
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وكقولك : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أو غير عالم به : كما يأتي إيضاحه ، فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين - إذ لا ثالث ألبتة - أنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه كما هو معروف ، ومنها أن يدل على الحصر المذكور إجماع ، ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به ، فإن علة الإجبار إما الجهل بالمصالح ، وإما البكارة . فإن قال المعترض : أين دليل حصر الأوصاف في الأمرين ؟ أجيب بأنه الإجماع على عدم التعليل بغيرهما ، فلو ادعى
[ ص: 497 ] المستدل حصر أوصاف المحل ، فقال المعترض : أين دليل الحصر ؟ فقال المستدل : بحثت بحثا تاما عن أوصاف المحل فلم أجد غير ما ذكرت ، أو قال : الأصل عدم غير ما ذكرت ، فالصحيح أن هذا يكفيه في إثبات الحصر ، فإن قال المعترض : أنا أعلم وصفا زائدا لم تذكره ، قيل له : بينه ، فإن لم يبينه سقط اعتراضه ، وإن بين وصفا زائدا على الأوصاف التي ذكرها المستدل بطل حصر المستدل بمجرد إبداء المعترض الوصف الزائد ، إلا أن يبين المستدل أنه لا يصلح للعلية فيكون إذا وجوده وعدمه سواء ، وقول من قال : إنه لا يكفيه قوله : بحثت فلم أجد غير هذا - خلاف التحقيق ، وأشار في مراقي السعود إلى هذا المسلك من مسالك العلة بقوله :
والسبر والتقسيم قسم رابع أن يحصر الأوصاف فيه جامع
ويبطل الذي لها لا يصلح فما بقي تعيينه متضح
معترض الحصر في دفعه يرد بحثت ثم بعد بحثي لم أجد
أو انفقاد ما سواها الأصل وليس في الحصر لظن حظل
وهو قطعي إذا ما نميا للقطع والظني سواه وعيا
حجية الظني عند الأكثر في حق ناظر وفي المناظر
إن يبد وصفا زائدا معترض وفى به دون البيان الغرض
وقطع ذي السبر إذا منحتم والأمر في إبطاله منبهم
وقوله في هذه الأبيات " في حق ناظر وفي المناظر " محله ما لم يدع المناظر علة غير علته ، وإن ادعاها فلا تكون علة أحدهما حجة على الآخر ، كما أوضحناه آنفا ، وكما أشار له بقوله المذكور آنفا " ورده انتفى . . . " إلخ .
وإذا حصل حصر أوصاف المحل فإبطال غير الصالح منها له طرق معروفة :
منها : بيان أن الوصف طردي محض ، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر ، والبياض والسواد ، أو بالنسبة إلى خصوص الحكم المتنازع في ثبوته أو نفيه ، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى باب العتق ، فإنه لا فرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى ; لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إليه وصفان طرديان ، وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالإرث والشهادة والقضاء وولاية النكاح ، فإن الذكر في ذلك ليس كالأنثى ، ويعرف كون الوصف طرديا - أي : لا مدخل له في التعليل أصلا - باستقراء موارد الشرع ومصادره ، إما مطلقا ، وإما في بعض الأبواب دون بعضها كما قدمناه آنفا .
[ ص: 498 ] ومثال إبطال الطردي في جميع الأحكام ما جاء في بعض روايات الحديث في المجامع في رمضان ، فإن في بعض الروايات أنه أعرابي ، وفي بعضها أنه جاء ينتف شعره ويضرب صدره ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن المثال لا يعترض ; لأن المراد منه بيان القاعدة ، ويكفي فيه الفرض ومطلق الاحتمال ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
والشأن لا يعترض المثال إذ قد كفى الغرض والاحتمال
فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن كونه أعرابيا ، وكونه جاء يضرب صدره وينتف شعره من أوصاف المحل في هذا الحكم ، وهي أوصاف يجب إبطالها وعدم تعليل وجوب الكفارة بها ; لأنها أوصاف طردية لا تحصل من إناطة الحكم بها فائدة أصلا ، فالأعرابي وغيره في ذلك سواء ، ومن جاء في سكينة ووقار ومن جاء يضرب صدره وينتف شعره في ذلك سواء أيضا ، ومثال الإبطال بكون الوصف طرديا في الباب الذي فيه النزاع دون غيره ، حديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007369من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد . . . " الحديث ، وهو متفق عليه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وقد قدمناه في سورة " الإسراء والكهف " فلفظ العبد الذكر في هذا الحديث وصف طردي ، فمن أعتق شركا له في أمة فكذلك ; لأنه عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تناط بهما أحكام العتق ، وإن كانت الذكورة والأنوثة غير طرديين في غير العتق كالميراث والشهادة كما تقدم ،
والوصف الطردي في اصطلاح أهل الأصول : هو ما علم من الشرع إلغاؤه وعدم اعتباره ; لأنه ليس في إناطة الحكم به مصلحة أصلا فهو خال من المناسبة ، ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر ألا تظهر للوصف مناسبة ،
والمناسبة في اصطلاح أهل الأصول : هي كون إناطة الحكم بالوصف تترتب عليها مصلحة فعدم المناسبة المذكورة من طرق إبطاله في مسلك السبر ، وإن كان عدم ظهور المناسبة في الوصف لا يبطله في بعض المسالك - غير السبر - كالإيماء على الأصح والدوران ، فالأحوال ثلاثة :
الأول : أن تظهر المناسبة ، وظهورها لا بد منه في مسلك السبر ومسلك المناسبة والإخالة .
الثاني : ألا تظهر المناسبة ولا عدمها ، وهذا يكفي في الدوران والإيماء على الصحيح .
[ ص: 499 ] الثالث : أن يظهر عدم المناسبة ، فيكون الوصف طرديا كما تقدم قريبا .
ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف ملغى وإن كان مناسبا للحكم المتنازع فيه ، ويكون الإلغاء باستقلال الوصف المستبقى بالحكم دونه في صورة مجمع عليها ، حكاه
الفهري ، ومثاله قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إن الكيل والاقتيات ونحو ذلك أوصاف ملغاة بالنسبة إلى تحريم الربا في ملء كف من البر ; لأنه لا يكال ولا يقات لقلته ، فعلة تحريم الربا فيه الطعم لاستقلال علة الطعم بالحكم دون غيرها من الأوصاف في هذه الصورة ، والقصد مطلق التمثيل ، لا مناقشة الأمثلة .
ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف الذي أبقاه المستدل متعديا من محل الحكم إلى غيره ، والوصف الذي يريد المعترض إبقاءه قاصر على محل الحكم ، قال صاحب ) الضياء اللامع ( : وذلك يشبه تعارض العلة المتعدية والقاصرة ، وهو كما قال ، ومثاله : اختلاف الأئمة رحمهم الله في
علة الكفارة في الإفطار عمدا في نهار رمضان ، فبعضهم يقول : العلة في ذلك خصوص الجماع ، وبعضهم يقول : العلة في ذلك انتهاك حرمة رمضان ، فكون الوصف المعلل به في هذا الحكم الجماع يقتضي عدم التعدي عن محل الحكم إلى غيره ، فلا تكون كفارة إلا في الجماع خاصة ، وكونه في هذا الحكم انتهاك حرمة رمضان يقضي التعدي في محل الحكم إلى غيره ، فتلزم الكفارة في الأكل والشرب عمدا في نهار رمضان بجامع انتهاك حرمة رمضان في الجميع من جماع وأكل وشرب ، فيترجح هذا الوصف بكونه متعديا على الآخر لقصوره على حمل الحكم وقصدنا التمثيل لا مناقشة الأمثلة ، ولا ينافي ما ذكرنا أن يأتي من يقول : العلة الجماع ، بمرجحات أخر لعلته ، وأشار في مراقي السعود إلى طرق الإبطال المذكورة بقوله :
أبطل لما طردا يرى ويبطل غير مناسب له المنخزل
كذلك بالإلغا وإن قد ناسبا ويتعدى وصفه الذي اجتبى
هذا هو حاصل كلام أهل الأصول في المقصود عندهم بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم .