المسألة الخامسة
اعلم أن لهذا الدليل آثارا تاريخية ، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها .
فمن ذلك أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول بخلق القرآن العظيم ، وذلك أن
محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون ، واستفحلت جدا في أيام المعتصم ، واستمرت على ذلك في أيام
الواثق ، وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم .
ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم ، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفا .
ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه "
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل " - تغمده الله برحمته الواسعة ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا - من الضرب المبرح أيام
المعتصم ، وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14231الخطيب البغدادي في تاريخ
بغداد في الكلام على ترجمة "
nindex.php?page=showalam&ids=12212أحمد بن أبي دؤاد " : أخبرنا
محمد بن الفرج بن علي البزار ، أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=13481عبد الله بن إبراهيم بن ماسي ، حدثنا
جعفر بن شعيب الشاشي ، حدثني
محمد بن يوسف الشاشي ، حدثني
إبراهيم بن منبه قال : سمعت
طاهر بن خلف يقول : سمعت
محمد بن الواثق الذي يقال له
nindex.php?page=showalam&ids=15345المهتدي بالله يقول : كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس ، فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي : ائذنوا
لأبي عبد الله وأصحابه ) يعني
nindex.php?page=showalam&ids=12212ابن أبي دؤاد ( قال : فأدخل الشيخ
والواثق في مصلاه فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال له : لا سلم الله عليك فقال : يا أمير المؤمنين ، بئس ما أدبك مؤدبك ، قال الله تعالى :
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ 4 \ 86 ] ، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=12212ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، الرجل متكلم ، فقال له : كلمه ، فقال : يا شيخ ، ما تقول في القرآن ؟ قال الشيخ : لم تنصفني - يعني ولي السؤال - فقال له : سل : فقال
[ ص: 503 ] له الشيخ : ما تقول في القرآن ؟ فقال : مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ، أم شيء لم يعلموه ؟ فقال : شيء لم يعلموه ، فقال : سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا
أبو بكر ، ولا
عمر ، ولا
عثمان ، ولا
علي ، ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ ! قال : فخجل ، فقال : أقلني والمسألة بحالها ، قال : نعم ، قال : ما تقول في القرآن ؟ فقال مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أو لم يعلموه ؟ فقال : علموه ولم يدعوا الناس إليه ، قال : أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ! قال : ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول : هذا شيء لم يعلمه النبي ولا
أبو بكر ولا
عمر ولا
عثمان ولا
علي ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ سبحان الله ، شيء علمه النبي
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ثم دعا
عمارا الحاجب ، فأمره أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار ، ويأذن له في الرجوع ، وسقط من عينه
nindex.php?page=showalam&ids=12212ابن أبي دؤاد ، ولم يمتحن بعد ذلك أحدا . انتهى منه .
وذكر
ابن كثير في تاريخه هذه القصة عن
nindex.php?page=showalam&ids=14231الخطيب البغدادي ، ولما انتهى من سياقها قال : ذكره
الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف . اهـ .
ويستأنس لهذه القصة بما ذكره
الخطيب وغيره : من أن
الواثق تاب من القول بخلق القرآن .
قال
ابن كثير في البداية والنهاية : قال
الخطيب : وكان
nindex.php?page=showalam&ids=12212ابن أبي دؤاد استولى على
الواثق وحمله على التشديد في المحنة ، ودعا الناس إلى
القول بخلق القرآن : قال : ويقال إن
الواثق رجع عن ذلك قبل موته ، فأخبرني
عبد الله بن أبي الفتح ، أنبأ
أحمد بن إبراهيم بن الحسن ، ثنا
إبراهيم بن محمد بن عرفة ، حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=15676حامد بن العباس ، عن رجل عن
المهتدي : أن
الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن ، وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء صحيحة الاحتجاج ، فيها إلقام الخصم الحجر .
وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ - الذي كان مكبلا بالقيود يراد قتله -
nindex.php?page=showalam&ids=12212أحمد بن أبي دؤاد حجرا ، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم . فكان الشيخ المذكور يقول
nindex.php?page=showalam&ids=12212لابن أبي دؤاد : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير
[ ص: 504 ] عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره ، فلا قسم ثالث ألبتة ، ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن
nindex.php?page=showalam&ids=12212أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين .
أما على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بها هو وأصحابه ، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها ، فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي وأصحابه من عدم الدعوة لها ، وكان يسعه ما وسعهم .
وأما على كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها ، فلا يمكن
nindex.php?page=showalam&ids=12212لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها ، فظهر ضلاله على كل تقدير ، ولذلك سقط من عين
الواثق ، وترك
الواثق لذلك امتحان أهل العلم ، فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى ، حتى أزالها الله بالكلية على يد
المتوكل رحمه الله ، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور .
ومن آثار هذا الدليل التاريخية ما ذكره بعض المؤرخين ، من أن
عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16521عبيد الله بن زياد ، فأدخل
ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه ، ثم نادى
ابن همام السلولي وقال له : ما حملك على أن تقول في كذا وكذا ؟ ! فقال
السلولي : أصلح الله الأمير والله ما قلت شيئا من ذلك ، فأخرج
ابن زياد الواشي ، وقال : هذا أخبرني أنك قلت ذلك ، فسكت
ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبا
للواشي :
وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا
بمنزلة بين الخيانة والإثم
فقال
ابن زياد : صدقت . وطرد
الواشي .
وحاصل هذين البيتين الذين طرد بهما
ابن زياد الواشي ولم يتعرض
للسلولي بسوء بسببهما ، هو هذا الدليل العظيم المذكور ، فكأنه يقول له : لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين : إما أن أكون ائتمنتك على سر فأفشيته ، وإما أن تكون قلته علي كذبا ، ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين ; لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له ، وإن كان قال عليه ذلك كذبا وافتراء فالأمر واضح .