قوله تعالى :
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : امتنانه على
بني إسرائيل بإنجائه إياهم من عدوهم فرعون ، وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن ، وأنه نزل عليهم المن ، والسلوى ، وقال لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم . ولا تطغوا فيغضب عليكم ربكم . وما ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع . كقوله في امتنانه عليهم بإنجائهم من عدوهم فرعون في " سورة البقرة " :
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 2 49 ] وقوله في " الأعراف " :
وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 7 141 ] وقوله في " الدخان " :
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين [ 44 30 - 31 ] وقوله في سورة " إبراهيم " :
وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 14 6 ] وقوله في " الشعراء "
كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ 26 59 ] وقوله في " الدخان "
كذلك وأورثناها قوما آخرين [ 44 28 ] وقوله في " الأعراف " :
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها [ 7 137 ] وقوله في " القصص " :
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة إلى قوله يحذرون [ 28 6 ] إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 74 ] وقوله هنا :
وواعدناكم جانب الطور الأيمن [ 20 80 ] الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله :
وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر الآية [ 7 142 ] وقوله :
وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة الآية [ 2 51 ] وقوله :
ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا [ 20 86 ] وهو الوعد بإنزال التوراة . وقيل فيه غير ذلك .
وقوله هنا :
ونزلنا عليكم المن والسلوى قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع . كقوله في " البقرة " :
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف "
وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى [ 7 160 ] وأكثر العلماء على أن المن : الترنجبين ، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد ، وهو يشبه العسل الأبيض . والسلوى : طائر يشبه السمانى . وقيل هو السمانى . وهذا قول الجمهور في المن ، والسلوى . وقيل : السلوى العسل . وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل . والتحقيق : أن " السلوى " يطلق على العسل لغة . ومنه قول
خالد بن زهير الهذلي :
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها . لأن النشور : استخراج العسل . قال
مؤرج بن عمر السدوسي : إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة . سمي به لأنه يسلي . قاله
القرطبي . إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية . واختلفوا في السلوى . هل هو جمع أو مفرد ؟ فقال بعضهم : هو جمع ، واحده سلواة ، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر
ويروى هذا البيت :
كما انتفض العصفور بلله القطر
وعليه فلا شاهد في البيت . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : السلوى مفرد وجمعه سلاوى . وقال
الأخفش : هو جمع لا واحد له من لفظه . مثل الخير والشر ، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته . كما قالوا : دفلى وسمانى وشكاعى في الواحد والجمع . والدفلى كذكرى : شجر أخضر مر حسن المنظر ، يكون في الأودية . والشكاعى كحبارى وقد تفتح : نوع من دقيق النبات صغير أخضر ، دقيق العيدان يتداوى به . والسمانى : طائر معروف .
[ ص: 75 ] قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي في المن : أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كد ، ولا تعب ، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على
بني إسرائيل في التيه . ويشمل غير ذلك مما يماثله . ويدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008311الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .
والأظهر عندي في السلوى : أنه طائر ، سواء قلنا إنه السمانى ، أو طائر يشبهه ، لإطباق جمهور العلماء من السلف ، والخلف على ذلك . مع أن السلوى ، يطلق لغة على العسل ، كما بينا .
وقوله في آية " طه " هذه :
كلوا من طيبات ما رزقناكم [ 20 81 ] أي : من المن ، والسلوى ، والأمر فيه للإباحة ، والامتنان .
وقد ذكر ذلك أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله في " البقرة "
وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف " :
وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 7 160 ] وقوله : كلوا في هذه الآيات مقول قول محذوف ، أي : وقلنا لهم كلوا ، والضمير المجرور في
قوله : ولا تطغوا فيه راجع إلى الموصول الذي هو " ما " أي : كلوا من طيبات الذي رزقناكم
ولا تطغوا فيه أي : فيما رزقناكم . ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم ، وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به ، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه ، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي ، أو يستعينوا به على المعصية ، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه ، ونحو ذلك .
وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا ، لأن الفاء في قوله فيحل سببية ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، لأنه بعد النهي وهو طلب محض ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب
وقرأ هذا الحرف
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي " فيحل " بضم الحاء ( ومن يحلل ) بضم اللام . والباقون قرءوا يحل بكسر الحاء و يحلل بكسر اللام . وعلى قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ( فيحل ) بالضم أي : ينزل بكم غضبي . وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر :
[ ص: 76 ] إذا وجب ، ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه . ومنه
ثم محلها إلى البيت العتيق [ 22 33 ] . وقوله : فقد هوى أي : هلك وصار إلى الهاوية ، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك ، ومنه قول الشاعر :
هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده
ويقولون : هوت أمه ، أي : سقط سقوطا لا نهوض بعده . ومنه قول
كعب بن سعد الغنوي :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يود الليل حين يئوب
ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى :
فأمه هاوية وعن
شفي بن ماتع الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه . قال الله تعالى :
سأرهقه صعودا [ 74 17 ] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى ، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله ، قال الله تعالى :
ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى قال
القرطبي ،
وابن كثير ، والله تعالى أعلم .
واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته ، تظهر آثارها في المغضوب عليهم . نعوذ بالله من غضبه جل وعلا . ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه ، ولا نكذب بشيء من ذلك ، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة " الأعراف " وقرأ
حمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي في هذه الآية قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم بتاء المتكلم فيهما . وقرأه الباقون " وواعدناكم وأنجيناكم " بالنون الدالة على العظمة ، فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم . وقرأ
أبو عمرو ( ووعدناكم ) بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد ، من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم .