تنبيه
في آية " طه " هذه وآية " الإسراء " المذكورتين إشكال معروف . وهو أن يقال : إنهما قد دلتا على أن
الكافر يحشر يوم القيامة أعمى ، وزادت آية " الإسراء " أنه يحشر أبكم أصم أيضا ، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون . كقوله تعالى :
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] وقوله تعالى :
ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها الآية [ 18 \ 53 ] وقوله تعالى :
ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا الآية [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد ذكرنا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : واستظهره
أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى ، والصمم ، والبكم حقيقته . ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها ، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع . الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئا يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ، ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ، ولا ينطقون بالحق ، ولا يسمعونه . وأخرج ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وروي أيضا عن
الحسن كما ذكره
الألوسي ، وغيره . وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به . كما أوضحنا في غير هذا الموضع . ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه . ألا ترى أن الله يقول في المنافقين :
صم بكم عمي الآية [ 2 \ 18 ] مع أنه يقول فيهم :
فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، ويقول فيهم :
وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] ، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . ويقول فيهم :
ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] ، وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء : فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم ، ومن ذلك قول
قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
[ ص: 129 ] وقول الآخر :
أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر :
قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء
ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه . وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه ، والرؤية التي لا فائدة فيها .
الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم :
اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] وقع بهم ذلك العمى ، والصمم ، والبكم من شدة الكرب ، واليأس من الفرج ، قال تعالى :
ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] ، وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة ، أعني قوله في " طه " :
ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 125 ] ، وقوله فيها :
لم حشرتني أعمى وقوله في " الإسراء :
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما [ 17 \ 97 ] ، وأظهرها عندي الأول ، والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] من النسيان بمعنى الترك عمدا كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله :
فنسي ولم نجد له عزما . [ 20 \ 115 ] .