قوله تعالى :
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت .
قال بعض أهل العلم : كان المشركون ينكرون نبوته - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : هو شاعر يتربص به ريب المنون ، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان ، فقال الله تعالى : قد مات
[ ص: 145 ] الأنبياء من قبلك ، وتولى دينه بالنصر والحياطة ، فهكذا نحفظ دينك وشرعك .
وقال بعض أهل العلم : لما نعى
جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه قال : " فمن لأمتي " ؟ فنزلت
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [ 21 \ 34 ] والأول أظهر ؛ لأن السورة مكية ، ومعنى الآية أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد أي : دوام البقاء في الدنيا ، بل كلهم يموت .
وقوله :
أفإن مت فهم الخالدون استفهام إنكاري معناه النفي . والمعنى : أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك ، بل سيموتون ، ولذلك أتبعه بقوله :
كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] وما أشار إليه - جل وعلا - في هذه الآية من أنه - صلى الله عليه وسلم - سيموت ، وأنهم سيموتون ، وأن الموت ستذوقه كل نفس أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى :
إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 \ 3 ] وكقوله :
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 52 \ 26 - 27 ] وقوله في سورة " آل عمران " :
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [ 3 \ 185 ] وقوله في سورة " العنكبوت " :
ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون [ 29 \ 56 - 57 ] وقوله تعالى في سورة " النساء " :
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا في سورة " الكهف " استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت
الخضر عليه السلام . وقال بعض أهل العلم في قوله :
فهم الخالدون هو استفهام حذفت أداته . أي : أفهم الخالدون . وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند
الأخفش مع " أم " ، ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون " أم " ودون ذكر الجواب قول
nindex.php?page=showalam&ids=15102الكميت :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
يعني : أو ذو الشيب يلعب . وقول
أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
يعني : أهم هم على التحقيق . ومن أمثلته دون " أم " مع ذكر الجواب قول
nindex.php?page=showalam&ids=16675عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب
[ ص: 146 ] يعني : أتحبها على الصحيح . وهو مع " أم " كثير جدا ، وأنشد له
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه قول
الأسود بن يعفر التميمي :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني :
أشعيث بن سهم ، ومنه قول بن
أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني : أبسبع . وقول
الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني : أكذبتك عينك . كما نص
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه في كتابه على جواز ذلك في بيت
الأخطل هذا ، وإن خالف في ذلك
الخليل قائلا : إن " كذبتك " صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف ، وإن " أم " بمعنى بل . ففي البيت على قول
الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى " الرجوع " . وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " وذكرنا أن قوله تعالى في آية " الأنبياء " هذه
فهم الخالدون من أمثلة ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
أفإن مت قرأه
نافع وحفص ، عن
عاصم وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي " مت " بكسر الميم ، والباقون بضم الميم ، وقد أوضحنا في سورة " مريم " وجه كسر الميم . وقوله في هذه الآية الكريمة :
أفإن مت فهم الخالدون يفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته ؛ لأنه هو ليس مخلدا بعده .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنه أنشد هذين البيتين مستشهدا بهما :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
ونظير هذا قول الآخر :
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا