قوله تعالى : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن .
أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم :
من يكلؤكم أي : من هو الذي يحفظكم ويحرسكم بالليل في حال نومكم والنهار في حال تصرفكم في أموركم . والكلاءة بالكسر : الحفظ والحراسة . يقال : اذهب في كلاءة الله . أي : في حفظه ، واكتلأت منهم : احترست . ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=12401ابن هرمة :
إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقول
كعب بن زهير :
أنخت بعيري واكتلأت بعينه وآمرت نفسي أي أمري أفعل
[ ص: 154 ] و " من " في قوله من الرحمن فيها للعلماء وجهان معروفان : أحدهما وعليه اقتصر
ابن كثير : أن " من " هي التي بمعنى بدل . وعليه فقوله من الرحمن أي : بدل الرحمن ، يعني غيره . وأنشد
ابن كثير لذلك قول الراجز :
جارية لم تلبس المرققا
ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تذق بدل البقول الفستق . وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى :
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة [ 9 \ 38 ] أي : بدلها . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أفيلا
يعني : أخذوا في الزكاة المخاض بدل الفصيل . والوجه الثاني : أن المعنى
من يكلؤكم أي : يحفظكم
من الرحمن أي : من عذابه وبأسه . وهذا هو الأظهر عندي . ونظيره من القرآن قوله تعالى :
فمن ينصرني من الله إن عصيته [ 11 \ 63 ] أي : من ينصرني منه فيدفع عني عذابه . والاستفهام في قوله تعالى : من يكلؤكم قال
أبو حيان في البحر : هو استفهام تقريع وتوبيخ ، وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير . فوجه كونه إنكاريا أن المعنى : لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله ألبتة إلا الله تعالى ، أي : فكيف تعبدون غيره . ووجه كونه تقريريا أنهم إذا قيل لهم : من يكلؤكم ؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله ؛ لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى ، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب ، ولا يدعون معه غيره ، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " الإسراء " وغيرها . فإذا أقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع ، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم بالليل والنهار إلى ما لا ينفع ، ولا يضر . وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد يمنع أحدا من عذاب الله ، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله ، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده - جاء مبينا في مواضع أخر ؛ كقوله تعالى :
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] على أظهر التفسيرات ، وقوله تعالى :
قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا الآية [ 48 \ 11 ] وقوله تعالى :
قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [ 33 \ 17 ] وقوله تعالى :
قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح [ ص: 155 ] ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] وقوله تعالى :
وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 33 \ 88 ] إلى غير ذلك من الآيات .