قوله تعالى :
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فتوزن أعمالهم وزنا في غاية العدالة والإنصاف ، فلا يظلم الله أحدا شيئا ، وأن عمله من الخير والشر وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل ، فإن الله يأتي به ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء ، وكفى به - جل وعلا - حاسبا ؛ لإحاطة علمه بكل شيء .
وبين في غير هذا الموضع أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف ، ومنها ما يثقل ، وأن من خفت موازينه هلك ، ومن ثقلت موازينه نجا ، كقوله تعالى :
والوزن يومئذ [ ص: 159 ] الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 7 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى :
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 23 \ 101 - 103 ] وقوله تعالى :
فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [ 101 \ 6 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ذكره في " الأعراف " في قوله :
والوزن يومئذ الحق [ 7 \ 8 ] لأن الحق عدل وقسط ، وما ذكره فيها من أنه لا تظلم نفس شيئا بينه في مواضع أخر كثيرة ، كقوله :
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] وقوله تعالى :
إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله تعالى :
ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كون العمل ، وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به - جل وعلا - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله عن
لقمان مقررا له :
يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير [ 31 \ 16 ] وقوله تعالى :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة :
ونضع الموازين جمع ميزان . وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص ؛ لقوله :
فمن ثقلت موازينه [ 23 \ 102 ] وقوله :
ومن خفت موازينه [ 23 ] فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله ، كما قال الشاعر :
ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان
والقاعدة المقررة في الأصول : أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وقال
ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه . وقد قدمنا في آخر سورة " الكهف "
[ ص: 160 ] كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وقوله في هذه الآية : القسط أي العدل ، وهو مصدر وصف به ، ولذا لزم إفراده ، كما قال في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
كما قدمناه مرارا . ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء : إنه المبالغة . وبعضهم يقول : هو بنية المضاف المحذوف ، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل . وعلى الثاني فالمعنى : الموازين ذوات القسط .
واللام في قوله :
ليوم القيامة فيها أوجه معروفة عند العلماء :
( منها ) : أنها للتوقيت ، أي الدلالة على الوقت ، كقول العرب : جئت لخمس ليال بقين من الشهر ، ومنه قول
نابغة ذبيان :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ومنها : أنها لام " كي " ، أي : نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة ، أي : لحساب الناس فيه حسابا في غاية العدالة ، والإنصاف .
( ومنها ) : أنها بمعنى في ، أي : نضع الموازين القسط في يوم القيامة .
والكوفيون يقولون : إن اللام تأتي بمعنى في ، ويقولون : إن من ذلك قوله تعالى :
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ 21 \ 47 ] أي : في يوم القيامة ، وقوله تعالى :
لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] أي : في وقتها . ووافقهم في ذلك
ابن قتيبة من المتقدمين ،
وابن مالك من المتأخرين ، وأنشد مستشهدا لذلك قول
مسكين الدارمي :
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع
يعني مضوا في سبيلهم . وقول الآخر :
وكل أب وابن وإن عمرا معا مقيمين مفقود لوقت وفاقد
أي في وقت .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
فلا تظلم نفس شيئا يجوز أن يكون شيئا هو المفعول الثاني لـ تظلم ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق . أي : شيئا من الظلم لا قليلا ، ولا كثيرا .
ومثقال الشيء : وزنه . والخردل : حب في غاية الصغر ،
[ ص: 161 ] والدقة . وبعض أهل العلم يقول : هو زريعة الجرجير . وأنث الضمير في قوله بها هو راجع إلى المضاف الذي هو مثقال وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو
حبة من خردل على حد قوله في الخلاصة :
وربما أكسب ثان أولا تأنيثا إن كان لحذف مؤهلا
ونظير ذلك من كلام العرب قول
عنترة في معلقته :
جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل قرارة كالدرهم
وقول الراجز :
طول الليالي أسرعت في نقضي نقضن كلي ونقضن بعضي
وقول
الأعشى :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقول الآخر :
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
فقد أنث في البيت الأول لفظة " كل " لإضافتها إلى " عين " . وأنث في البيت الثاني لفظة " طول " لإضافتها إلى " الليالي " وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى " القناة " وأنث في البيت الرابع " مر " لإضافته إلى " الرياح " . والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيما ، كما قال في الخلاصة : .
. . . . . . . . . إن كان لحذف مؤهلا
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا
وإن كان مثقال حبة بنصب مثقال على أنه خبر كان أي : وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل .
وقرأ
نافع وحده
وإن كان مثقال بالرفع ، فاعل كان على أنها تامة . كقوله تعالى :
وإن كان ذو عسرة .