قوله تعالى :
وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه سخر الجبال ، أي : ذللها ، وسخر الطير تسبح مع
داود . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من
تسخيره الطير والجبال تسبح مع نبيه داود بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى :
ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير الآية [ 34 \ 10 ] . وقوله : أوبي معه أي : رجعي معه التسبيح . والطير أي : ونادينا الطير بمثل ذلك من ترجيع التسبيح معه . وقول من قال أوبي معه : أي : سيري معه ، وأن التأويب سير النهار - ساقط كما ترى . وكقوله تعالى :
واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب [ 38 \ 17 - 18 ] .
والتحقيق : أن تسبيح الجبال والطير مع
داود المذكور تسبيح حقيقي ؛ لأن الله - جل وعلا - يجعل لها إدراكات تسبح بها ، يعلمها هو - جل وعلا - ونحن لا نعلمها . كما قال :
[ ص: 232 ] وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 7 \ 44 ] وقال تعالى :
وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله الآية [ 2 \ 74 ] وقال تعالى :
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها الآية [ 33 \ 72 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري أن الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتقل عنه بالخطبة إلى المنبر سمع له حنين . وقد ثبت في صحيح
مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008431إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن " وأمثال هذا كثيرة . والقاعدة المقررة عند العلماء أن نصوص الكتاب ، والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل يجب الرجوع إليه . والتسبيح في اللغة : الإبعاد عن السوء ، وفي اصطلاح الشرع : تنزيه الله - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .
وقال
القرطبي في تفسير هذه الآية
وسخرنا مع داود الجبال [ 21 \ 79 ] أي : جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح ، والظاهر أن قوله : وكنا فاعلين مؤكد لقوله :
وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير [ 21 \ 79 ] والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة ، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وكنا فاعلين أي : قادرين على أن نفعل هذا . وقيل : كنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك . وكلا القولين اللذين قال ظاهر السقوط ؛ لأن تأويل وكنا فاعلين بمعنى كنا قادرين بعيد ، ولا دليل عليه كما لا دليل على الآخر كما ترى .
وقال
أبو حيان وكنا فاعلين أي : فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا . ا هـ . وأظهرها عندي هو ما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .