صفحة جزء
تنبيه

إذا مات الشخص ، ولم يحج ، وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه أو بغيره عند من يقول بذلك ، وكان قد ترك مالا ، فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله ؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم ، فقال بعضهم : يجب أن يحج عنه ، ويعتمر عنه من تركته ، سواء مات مفرطا أو غير مفرط ; لكون الموت عاجله عن الحج فورا . وبهذا قال الشافعي وأحمد .

[ ص: 323 ] قال ابن قدامة في المغني : وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي . وقال أبو حنيفة ومالك : يسقط بالموت ، فإن أوصى بذلك ، فهو في الثلث ، وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية ، فتسقط بالموت كالصلاة ، واحتجوا أيضا بأن ظاهر القرآن كقوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] مقدم على ظاهر الأحاديث ، بل على صريحها ؛ لأنه أصح منها . وأجاب المخالفون بأن الأحاديث مخصصة لعموم القرآن ، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه ، بتقديم المال وأجرة من يحج عنه . فهذا من سعيه ، وأجابوا عن قياسه على الصلاة بأنها لا تدخلها النيابة ، بخلاف الحج ، والذين قالوا : يجب أن يحج عنه من رأس ماله استدلوا بأحاديث جاءت في ذلك ، تقتضي أن من مات وقد وجب عليه الحج قبل موته ، أنه يحج عنه .

منها : ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : " نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء " . اهـ .

والحج في هذا الحديث وإن كان منذورا فإيجاب الله له على عباده في كتابه أقوى من إيجابه بالنذر . واستدل بالحديث المذكور بعض أهل العلم على صحة نذر الحج ممن لم يحج .

قال ابن حجر في الفتح : فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام ، عند الجمهور ، وعليه الحج عن النذر . وقيل : يجزئ عن النذر ، ثم يحج حجة الإسلام . وقيل : يجزئ عنهما .

وقال البخاري أيضا في كتاب الأيمان والنذور : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن أختي نذرت أن تحج ، وإنها ماتت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم ، قال : " فاقض الله فهو أحق بالقضاء " . اهـ .

وقال المجد في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري هذا : وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره ، حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا ؟ وشبهه بالدين . انتهى .

[ ص: 324 ] وقد تقرر في الأصول : أن عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي : طلب التفصيل في أحوال الواقعة ، ينزل منزلة العموم القولي ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :


ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال



وخالف في هذا الأصل أبو حنيفة رحمه الله كما هو مقرر في الأصول ، مع بيان الخلاف في المسائل الفقهية ، تبعا للخلاف في هذا الأصل المذكور .

ومنها : ما رواه النسائي في سننه ، أخبرنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس : أن امرأة نذرت أن تحج فماتت ، فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ؟ فقال " أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : " فاقضوا الله ، فهو أحق بالوفاء " . انتهى .

وهذه الأحاديث التي ذكرنا في نذر الحج ، وقد بينا أن إيجاب الله فريضة الحج أعظم من إيجابها بالنذر ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقضائها وشبهها بدين الآدمي ، وسنذكر أيضا إن شاء الله أحاديث ليس فيها نذر الحج .

قال النسائي في سننه : أخبرنا أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي ، عن عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، إن أبي مات ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم . قال : " فدين الله أحق " . اهـ .

ورجال هذا الإسناد ثقات معروفون ، لا كلام في أحد منهم ، إلا الحكم بن أبان العدني . وقد قال فيه ابن معين ، والنسائي : ثقة . وقال أبو زرعة : صالح . وقال العجلي : ثقة صاحب سنة . قال ابن عيينة : أتيت عدن ، فلم أر مثل الحكم بن أبان ، وعده ابن حبان في الثقات . وقال : ربما أخطأ . وإنما وقع المناكير في روايته ، من رواية ابنه إبراهيم عنه ، وإبراهيم ضعيف . وحكى ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير وابن المديني وأحمد بن حنبل . اهـ . وقال ابن عدي : فيه ضعف . وقال ابن خزيمة في صحيحه : تكلم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخبره . وبما ذكر تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور ، وليس فيه نذر الحج .

وقال النسائي في سننه أيضا : أخبرنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا أبو التياح ، قال : حدثني موسى بن سلمة الهذلي ، أن ابن عباس قال : أمرت [ ص: 325 ] امرأة سنان بن سلمة الجهني ، أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمها ماتت ولم تحج ، أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها ؟ قال : " نعم ، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها ؟ فلتحج عن أمها " ، وهذا الإسناد صحيح . وفي لفظ عند النسائي أيضا ، عن ابن عباس ، بإسناد آخر : أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيها ، مات ولم يحج . قال : " حجي عن أبيك " وإسناده صحيح أيضا . وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس بإسناد آخر صحيح .

وقال المجد في المنتقى : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه ؟ " قال : نعم ، قال : " فاحجج عن أبيك " رواه الدارقطني . انتهى من المنتقى .

وقال الترمذي في سننه : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، نا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي ماتت ولم تحج ، أفأحج عنها ؟ قال " نعم ، حجي عنها " . اهـ . ثم قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . اهـ . وأخرج البيهقي نحوه بإسناد صحيح .

وقال الشافعي في مسنده : أخبرنا سعيد بن سالم ، عن حنظلة ، سمعت طاوسا يقول : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ، فقالت : إن أمي ماتت ، وعليها حج ، قال : " حجي عن أمك " ولا يخفى أن حديث الشافعي هذا مرسل ، ولكنه معتضد بما تقدم من الأحاديث ، وبما سيأتي إن شاء الله .

وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثني علي بن حجر السعدي ، حدثنا علي بن مسهر أبو الحسن ، عن عبد الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت قال : فقال " وجب أجرك وردها عليك الميراث ، قالت : يا رسول الله ، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج قط ، أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها " . انتهى من صحيح مسلم .

فهذه الأحاديث وأمثالها : هي حجة من قال : إن من وجب عليه الحج في الحياة ، وترك مالا وجب أن يحج عنه ، وليست كلها ظاهرة في ذلك . ولكن بعضها ظاهر فيه [ ص: 326 ] كتشبيهه بدين الآدمي ونحو ذلك مما تقدم . وأجاب المخالفون بأن الحج أعمال بدنية ، وإن كانت تحتاج إلى مال . والأعمال البدنية تسقط بالموت ، فلا وجوب لعمل بعد الموت ، والذي يحج عنه متطوع ، وفاعل خيرا . قالوا : ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل ، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه ، والميت ينتفع بالحج عنه ، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد ، أن القضاء عنه واجب ، بل يجوز أن يكون قضاؤه عنه غير واجب عليه .

واحتجوا أيضا بأن جميع الأحاديث الواردة بالحج عن الميت : واردة بعد الاستئذان في الحج عنه ، قالوا : والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر ، فهو للإباحة ; لأن الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة .

قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث الأمر : فإن ورد بعد حظر - قال الإمام : أو استئذان - فللإباحة . وقال أبو الطيب ، والشيرازي ، والسمعاني والإمام : للوجوب ، وتوقف إمام الحرمين . انتهى منه . فتراه صدر بأن الأمر بعد الاستئذان للإباحة ، والخلاف في المسألة معروف ، وقد ذكرنا فيه أقوال أهل العلم ، في أبيات مراقي السعود في أول سورة المائدة .

ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة : أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما اصطادوه بالجوارح ، واستأذنوه في أكله ، نزل في ذلك قوله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ 5 \ 4 ] فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة ; لأنه وارد بعد سؤال واستئذان .

ومن أمثلته من السنة : حديث مسلم : أأصلي في مرابض الغنم ؟ قال " نعم " الحديث ، فإن معنى " نعم " هنا : صل فيها . وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة ; لأنه بعد الاستئذان ، وخلاف أهل الأصول في مسألة الأمر بعد الحظر أو الاستئذان معروف .

هذا هو حاصل كلامهم في المستطيع بغيره ، ووجوب الحج عمن وجب عليه في الحياة ، ومات قبل أن يحج وترك مالا ، وقد علمت أدلتهم ومناقشتها .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأحاديث التي ذكرنا تدل قطعا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت .

وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورا ، وعليه فلو فرط ، وهو قادر على [ ص: 327 ] الحج حتى مات مفرطا مع القدرة ، أنه يحج عنه من رأس ماله ، إن ترك مالا ; لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته ، فكانت دينا عليه ، وقضاء دين الله صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال : " فدين الله أحق أن يقضى " .

أما من عاجله الموت قبل التمكن ، فمات غير مفرط ، فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه ، ولا دين لله عليه ; لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته ، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقد دلت الأحاديث المذكورة على جواز حج الرجل عن المرأة وعكسه ، وعليه عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا الحسن بن صالح بن حي .

والأحاديث المذكورة حجة عليه ، وقد قدمنا أن مالكا رحمه الله ومن وافقوه ، لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث التي ذكرنا مع كثرتها وصحتها ; لأنها مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] . وقوله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] والمعضوب والميت ليس واحد منهما بمستطيع ; لصدق قولك : إنه غير مستطيع بنفسه .

واعلم أن ما اشتهر عن مالك من أنه يقول : لا يحج أحد عن أحد ; معناه عنده : أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض .

والمعضوب عنده ليس بقادر ، وأحرى الميت ، فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية ، فإن أوصى به صح من الثلث ، وتطوع وليه بالحج عنه ، خلاف الأولى عنده ، بل مكروه .

والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج ، كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك ، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه .

والحاصل : أن النيابة عن الصحيح في الفرض عنده ممنوعة ، وفي غير الفرض مكروهة ، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلا للحج .

قال خليل بن إسحاق في مختصره : ومنع استنابة صحيح في فرض ، وإلا كره . اهـ .

وقال شارحه الخطاب : ويدخل في قول المصنف : وإلا كره ، بحسب الظاهر ثلاث صور : استنابة الصحيح في النفل ، واستنابة العاجز في الفرض وفي النفل ، لكن في التحقيق ليس هنا إلا صورتان ; لأن العاجز لا فريضة عليه . اهـ .

واعلم أن بعض المالكية حمل الكراهة المذكورة على التحريم ، والأحاديث التي ذكرنا حجة على مالك ومن وافقه ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية