الفرع الرابع : في كلام العلماء في الطواف هل يشترط له ما يشترط للصلاة من طهارة الحدث ، والخبث وستر العورة أو لا يشترط ذلك ؟
اعلم أن
اشتراط الطهارة من الحدث ، والخبث ، وستر العورة في الطواف هو قول أكثر أهل العلم ، منهم
مالك ، وأصحابه ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وأصحابه ، وهو مشهور مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد .
قال
النووي في شرح المهذب : وحكاه
الماوردي عن جمهور العلماء ، وحكاه
ابن المنذر في طهارة الحدث ، عن عامة العلماء .
وخالف الإمام
أبو حنيفة رحمه الله الجمهور في هذه المسألة ، فقال : لا تشترط للطواف طهارة ، ولا ستر عورة ، فلو
طاف جنبا ، أو محدثا ، أو عليه نجاسة ، أو عريانا صح طوافه عنده .
واختلف أصحابه في وجوب الطهارة للطواف ، مع اتفاقهم على أنها ليست بشرط فيه . ومن أشهر الأقوال عندهم أنه إذا طاف طواف الإفاضة جنبا ، فعليه بدنة ، وإن طافه محدثا : فعليه شاة ، وأنه يعيد الطواف بطهارة ما دام
بمكة ، فإن رجع إلى بلده ، فالدم على التفصيل المذكور ، واحتج الجمهور لاشتراط الطهارة للطواف ، بأدلة .
منها : حديث
عائشة المتفق عليه الذي ذكرناه سابقا بسنده ، ومتنه عند
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008613أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم : " أنه توضأ ، ثم طاف بالبيت " الحديث ، قالوا : فهذا الحديث الصحيح صرحت فيه
عائشة رضي الله عنها ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالوضوء قبل الطواف لطوافه ، فدل على أنه لا بد للطواف من الطهارة .
[ ص: 397 ] فإن قيل : وضوءه صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث فعل مطلق ، وهو لا يدل على الوجوب : فضلا عن كونه شرطا في الطواف .
فالجواب : أن وضوءه لطوافه المذكور في هذا الحديث ، قد دل دليلان على أنه لازم لا بد منه .
أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444 " خذوا عني مناسككم " ، وهذا الأمر للوجوب ، والتحتم ، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالا لأمره في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444 " خذوا عني مناسككم " .
والدليل الثاني : أن فعله في الطواف من الوضوء له ، ومن هيئته التي أتى به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى :
وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص من كتاب الله ، فهو على اللزوم والتحتم . ولذا أجمع العلماء على
قطع يد السارق من الكوع ; لأن قطع النبي صلى الله عليه وسلم للسارق من الكوع بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى :
فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق ، وإلى المنكب .
قال صاحب الضياء اللامع في شرح قول صاحب جمع الجوامع : ووقوعه بيانا ما نصه : الثاني : أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل ، إما بقرينة حال ، مثل القطع من الكوع ، فإنه بيان لقوله تعالى :
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] وإما بقول كقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007269 " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، فإن الصلاة فرضت على الجملة ، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله وأخبر بقوله : أن ذلك الفعل بيان ، وكذا قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444 " خذوا عني مناسككم " ، وحكم هذا القسم وجوب الاتباع انتهى . محل الغرض منه .
وأشار في مراقي السعود : إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم الواقع لبيان مجمل من كتاب الله إن كان المبين بصيغة اسم المفعول واجبا فالفعل المبين له بصيغة اسم الفاعل واجب بقوله :
من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا
ومحل الشاهد منه قوله : وبالبيان يعني : أنه يعرف حكم فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب أو غيره بالبيان ، فإذا بين أمرا واجبا : كالصلاة والحج ، وقطع السارق بالفعل ، فهذا الفعل واجب إجماعا لوقوعه بيانا لواجب ، إلا ما أخرجه دليل خاص ، وبهذا تعلم أن الله تعالى أوجب طواف الركن بقوله :
وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد بينه صلى الله عليه وسلم بفعله
[ ص: 398 ] وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444 " خذوا عني مناسككم " ومن فعله الذي بينه به : الوضوء له كما ثبت في الصحيحين ، فعلينا أن نأخذه عنه إلا بدليل ، ولم يرد دليل يخالف ما ذكرنا .
ومن أدلتهم على اشتراط الطهارة من الحدث للطواف : ما أخرجاه في الصحيحين من حديث
عائشة رضي الله عنها ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله في كتاب الحيض : حدثنا
أبو نعيم ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15136عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن
عبد الرحمن بن القاسم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد ، عن
عائشة ، قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008614 " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف طمثت " الحديث . وفيه : " فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " ، انتهى منه .
وأخرج
مسلم في صحيحه حديث
عائشة هذا بإسنادين عن
عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها بلفظ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008615 " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " وفي لفظ
مسلم عنها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008616 " فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي " قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنهي
عائشة رضي الله عنها عن الطواف إلى غاية هي الطهارة لقوله : " حتى تطهري " ، عند الشيخين ، و " حتى تغتسلي " ، عند
مسلم ومنع الطواف في حالة الحدث ، الذي هو الحيض إلى غاية الطهارة من جنابته : يدل مسلك الإيماء ، والتنبيه على أن علة منعها من الطواف ، هو الحدث الذي هو الحيض ، فيفهم منه اشتراط الطهارة من الجنابة للطواف كما ترى .
فإن قيل : يجوز أن تكون علة النهي عن طوافها ، وهي حائض ، أن الحائض لا تدخل المسجد .
فالجواب : أن نص الحديث يأبى هذا التعليل ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " حتى تطهري حتى تغتسلي " ، ولو كان المراد ما ذكر لقال : حتى ينقطع عنك الدم .
قال
النووي في شرح المهذب : فإن قيل : إنما نهاها لأن الحائض لا تدخل المسجد .
قلنا : هذا فاسد ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " حتى تغتسلي " ، ولم يقل حتى ينقطع دمك ، وهو ظاهر .
ومن أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة في الطواف : ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008617 " الطواف بالبيت صلاة " الحديث . قال
الزيلعي في نصب الراية : رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في
[ ص: 399 ] صحيحه في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=14919فضيل بن عياض ،
والحاكم في المستدرك من حديث
سفيان كلاهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008617 " الطواف بالبيت صلاة ; إلا أن الله قد أحل فيه الكلام فمن يتكلم فلا يتكلم إلا بخير " ، انتهى . وسكت
الحاكم عنه ، وأخرجه
الترمذي في كتابه عن
جرير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب به بلفظ : " الطواف حول البيت مثل الصلاة " ، قال : وقد روي هذا الحديث عن ابن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس وغيره ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب . وعن
الحاكم رواه
البيهقي في المعرفة بسنده ثم قال : وهذا حديث قد رفعه
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفا ، وهو أصح انتهى . وقال الشيخ
تقي الدين في الإمام : هذا الحديث روي مرفوعا ، أما المرفوع فله ثلاثة أوجه :
أحدهما : رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب رواها عنه
جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=14919وفضيل بن عياض ،
nindex.php?page=showalam&ids=17171وموسى بن أعين ،
وسفيان أخرجها كلها
البيهقي .
الوجه الثاني : رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16861ليث بن أبي سليم رواها عنه
nindex.php?page=showalam&ids=17171موسى بن أعين ، عن
ليث ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مرفوعا باللفظ المذكور ، أخرجها
البيهقي في سننه ،
nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في معجمه .
الوجه الثالث : رواية
الباغندي ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12397إبراهيم بن ميسرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مرفوعا نحوه رواه
البيهقي أيضا . فأما طريق
عطاء فإن
عطاء من الثقات ، لكنه اختلط بأخرة قال
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا ، فليس بشيء ، وجميع من روى عنه روى عنه في الاختلاط إلا
شعبة ،
وسفيان ، وما سمع منه
جرير وغيره فليس من صحيح حديثه . وأما طريق
ليث ، فليث رجل صالح صدوق يستضعف . قال
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين :
nindex.php?page=showalam&ids=16861ليث بن أبي سليم ضعيف مثل
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب ، وقد أخرج له
مسلم في المتابعات ، وقد يقال : لعل اجتماعه مع
عطاء يقوي رفع الحديث ، وأما طريق
الباغندي ، فإن
البيهقي لما ذكرها قال ولم يضع
الباغندي شيئا في رفعه لهذه الرواية . فقد رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ،
وأبو عوانة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12397إبراهيم بن ميسرة موقوفا انتهى من نصب الراية
للزيلعي . ثم قال أيضا : حديث آخر رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في معجمه الأوسط : حدثنا
محمد بن أبان ، ثنا
أحمد بن ثابت الجحدري ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=11980أبو حذيفة موسى بن مسعود ، ثنا
سفيان ، عن
حنظلة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس : عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008618 " الطواف صلاة فأقلوا فيه الكلام " انتهى منه .
[ ص: 400 ] واعلم : أن علماء الحديث قالوا : إن وقف هذا الحديث على
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أصح من رفعه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وقد علمت مما مر قريبا أن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المذكور رفعه
nindex.php?page=showalam&ids=16571عطاء بن السائب ،
nindex.php?page=showalam&ids=16861وليث بن أبي سليم ، والظاهر أن اجتماعهما معا لا يقل عن درجة الحسن ، ومما يؤيد ذلك أن ممن روى رفعه عن
عطاء nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، وقد ذكروا أن رواية
سفيان عنه صحيحة ; لأنه روى عنه قبل اختلاطه ، وعلى ذلك فهو دليل على اشتراط الطهارة ، وستر العورة ; لأن قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008619 " الطواف صلاة " يدل على أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة ، إلا ما أخرجه دليل خاص كالمشي فيه ، والانحراف عن القبلة ، والكلام ، ونحو ذلك .
فإن قيل : المحققون من علماء الحديث ، يرون أن الصحيح أن حديث (
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008619الطواف صلاة ) موقوف لا مرفوع ، لأن من وقفوه أضبط ، وأوثق ممن رفعه ؟
فالجواب : أنا لو سلمنا أنه موقوف ، فهو قول صحابي اشتهر ولم يعلم له مخالف من الصحابة ، فيكون حجة ، لا سيما وقد اعتضد بما ذكرنا قبله من الأحاديث الصحيحة ، وبينا وجه دلالتها على اشتراط الطهارة للطواف .
وقال
النووي في شرح المهذب في الكلام على حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008619 " الطواف صلاة " ما نصه : وقد سبق أن الصحيح أنه موقوف على
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وتحصل منه الدلالة أيضا ، لأنه قول صحابي اشتهر ، ولم يخالفه أحد من الصحابة ، فكان حجة كما سبق بيانه في مقدمة هذا الشرح ، وقول الصحابي حجة أيضا ، عند
أبي حنيفة انتهى منه .
فهذا الذي ذكرنا هو حاصل أدلة من قال : باشتراط الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر للطواف ، وأما اشتراط ستر العورة للطواف فقد استدلوا له بحديث متفق عليه دال على ذلك .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17320يحيى بن بكير ، حدثنا
الليث قال
يونس : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب : حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=15770حميد بن عبد الرحمن : أن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة أخبره أن
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . وقال
مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا
هارون بن سعيد الأبلي ، حدثنا
ابن وهب ،
[ ص: 401 ] أخبرني
عمرو ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15770حميد بن عبد الرحمن ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ح ، حدثني
حرملة بن يحيى التجيبي ، أخبرنا
ابن وهب ، أخبرني
يونس : أن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب أخبره عن
nindex.php?page=showalam&ids=15769حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : بعثني
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط ، يؤذنون في الناس يوم النحر : " لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " قال
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب : فكان
nindex.php?page=showalam&ids=15770حميد بن عبد الرحمن يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر ، من أجل حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، فهذا الحديث المتفق عليه بلفظ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008620 " ولا يطوف بالبيت عريان " يدل فيه مسلك الإيماء والتنبيه على أن علة المنع من الطواف كونه عريانا ، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف كما ترى .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وجوب ستر العورة للطواف يدل عليه كتاب الله في قوله تعالى في سورة الأعراف :
يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] . وإيضاح دلالة هذه الآية الكريمة على ستر العورة للطواف يتوقف أولا على مقدمتين .
الأولى منهما : أن تعلم أن المقرر في علوم الحديث أن
تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول ، أن له حكم الرفع كما أوضحناه في سورة البقرة .
قال
العلوي الشنقيطي في طلعة الأنوار :
تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق
وقال
العراقي في ألفيته :
وعد ما فسره الصحابي رفعا فمحمول على الأسباب
المقدمة الثانية : هي أن تعلم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول عند جماهير الأصوليين ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .
فإذا علمت ذلك : فاعلم أن سبب نزول قوله تعالى :
خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة ، فتقول : من يعيرني ثوبا تجعله على فرجها ، وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية في هذا السبب :
يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] .
[ ص: 402 ] ومن زينتهم التي أمروا بأخذها عند كل مسجد : لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف ; لأنه هو صورة سبب النزول . فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور ، كما ذكرناه الآن وأوضحناه سابقا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك . فالأمر في : خذوا شامل لستر العورة للطواف ، وهو أمر حتم أوجبه الله مخاطبا به بني آدم ، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر .
واعلم أيضا : أنه ثبت عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ما يدل على أنه فسر :
خذوا زينتكم بلبس الثياب للطواف استنادا لسبب النزول .
قال
مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16937محمد بن جعفر ح ، وحدثني
أبو بكر بن نافع واللفظ له ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16769غندر ، حدثنا
شعبة ، عن
مسلمة بن كهيل ، عن
مسلم البطين ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول : من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية :
خذوا زينتكم عند كل مسجد انتهى منه . ولأجل هذا كان
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يفسر الزينة المذكورة في هذه الآية : باللباس ، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول ، فله حكم الرفع كما بينا والبيت المذكور بعده :
جهم من الجهم عظيم ظله كم من لبيب عقله يضله
وناظر ينظر ما يمله
قال صاحب الدر المنثور : وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ،
وابن مردويه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
خذوا زينتكم عند كل مسجد قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة : اللباس ، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ا هـ منه . وجماهير علماء التفسير مطبقون على هذا التفسير المتعلق بسبب النزول ، فتبين بما ذكرنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا معا على ستر العورة للطواف ، وقد قدمنا مرارا كلام العلماء في اقتضاء النهي الفساد فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وقد رأيت فيما كتبنا أدلة الجمهور على طهارة الحدث وستر العورة للطواف .
أما
طهارة الخبث : فقد استدلوا لها بما تقدم من أن الطواف صلاة ، وقد بينا وجه الدلالة منه على ذلك ، سواء قلنا : إنه موقوف ، أو مرفوع ، وقد يقال : إنه لا مجال للرأي
[ ص: 403 ] فيه ، فله حكم الرفع ، واستأنس بعضهم لطهارة الخبث للطواف بقوله تعالى :
وطهر بيتي للطائفين الآية [ 22 \ 26 ] ; لأنه يدل في الجملة على الأمر بالطهارة للطائفين ، والعلم عند الله تعالى . وإذا علمت مما ذكرنا أن جماهير العلماء منهم الأئمة الثلاثة قالوا : باشتراط الطهارة وستر العورة للطواف ، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة خالف الجمهور في هذه المسألة ، فلم يشترط الطهارة ، ولا ستر العورة للطواف .
فاعلم أن حجته في ذلك هي قاعدة مقررة في أصوله ترك من أجلها العمل بأحاديث صحيحة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتلك القاعدة التي ترك من أجلها العمل ببعض الأحاديث الصحيحة ، متركبة من مقدمتين :
إحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .
والثانية : أن
الأخبار المتواترة لا تنسخ بأخبار الآحاد ، فقال في المسألة التي نحن بصددها : قال الله تعالى في كتابه
وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وهو نص متواتر ، فلو زدنا على الطواف اشتراط الطهارة ، والستر ، فإن هذه الزيادة نسخ ، وأخبارها أخبار آحاد فلا تنسخ المتواتر الذي هو الآية ، ولأجل هذا لم يقل بتغريب الزاني البكر ، لأن الأحاديث الصحيحة الدالة عليه عنده أخبار آحاد ، وزيادة التغريب على قوله :
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 ] نسخ له ، وهو متواتر ، فلا ينسخ بأخبار الآحاد . ولأجل ذلك أيضا لم يقل بثبوت المال بالشاهد واليمين ، لأنه يرى ذلك زيادة على قوله تعالى :
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء الآية [ 2 \ 282 ] والزيادة نسخ ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد ا هـ . والتحقيق في مسألة الزيادة على النص هو التفصيل . فإن كانت الزيادة أثبتت شيئا نفاه المتواتر ، أو نفت شيئا أثبته ، فهي نسخ له ، وإن كانت الزيادة زيد فيها شيء ، لم يتعرض له النص المتواتر ، فهي زيادة شيء مسكوت عنه لم ترفع حكما شرعيا ، وإنما رفعت البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية ، ورفعها ليس بنسخ .
مثال الزيادة التي هي نسخ على التحقيق : زيادة تحريم الخمر بالقرآن ، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة الصحيحة ، على قوله تعالى :
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] فإن هذه الآية الكريمة لم تسكت عن إباحة الخمر والحمر الأهلية وقت
[ ص: 404 ] نزولها ، بل صرحت بإباحتهما بمقتضى الحصر الصريح بالنفي في
لا أجد في ما أوحي إلي والإثبات في قوله :
إلا أن يكون ميتة فتحريم شيء زائد على الأربعة المذكورة في الآية زيادة ناسخة ; لأنها أثبتت تحريما دلت الآية على نفيه .
ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات ، زيادة تغريب الزاني البكر عاما بالسنة الصحيحة على آية الجلد ، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين على آية :
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية . وزيادة الطهارة ، والستر التي بينا أدلتها على آية :
وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله :
وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا
وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :
قل لا أجد في ما أوحي إلي [ 6 \ 145 ] ، وبينا أن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا علم تأخرها عنه ، وبيناها أيضا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :
وإذا بدلنا آية مكان آية الآية [ 16 \ 101 ] . ولذلك اختصرناها هنا ، والعلم عند الله تعالى .