الفرع الثامن : أجمع العلماء على مشروعية
صلاة ركعتين بعد الطواف ، ولكنهم اختلفوا في ركعتي الطواف ، هل حكمهما الوجوب أو السنية ؟ فقال بعض أهل العلم : إن ركعتي الطواف واجبتان ، واستدلوا لوجوبهما بصيغة الأمر في قوله :
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ 2 \ 125 ] على قراءة
ابن كثير ،
وأبي عمرو ،
وعاصم ،
وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف : قرأ هذه الآية الكريمة ، وصلى ركعتين خلف المقام ، ممتثلا بذلك الأمر في قوله :
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . وقد قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444 " خذوا عني مناسككم " ، والأمر في قوله : واتخذوا على القراءة المذكورة يقتضي الوجوب كما بيناه مرارا في هذا الكتاب المبارك . وقال جمهور العلماء : إن ركعتي الطواف من السنن ، لا من الواجبات ، واستدلوا لعدم وجوبهما بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=55طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيح . قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008634جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل نجد ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ، ولا يفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع " الحديث . قالوا : وفي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه لا يجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة ، وقد يجاب عن هذا الاستدلال : بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف خلف المقام وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008635 " لا ، إلا أن تطوع " ، والعلم عند الله تعالى .
والمستحب أن يقرأ في الأولى من ركعتي الطواف :
قل ياأيها الكافرون [ 109 ] وفي الثانية :
قل هو الله أحد [ 112 ] كما هو ثابت في حديث
جابر . وجمهور أهل العلم على أن ركعتي الطواف لا يشترط في صحة صلاتهما أن تكون خلف المقام ، بل لو صلاهما في أي موضع غيره صح ذلك . ولو طاف في وقت نهي ، فأحد قولي أهل العلم : إنه يؤخر صلاتهما إلى وقت لا نهي عن النافلة فيه ، ومما يدل على هذين
[ ص: 411 ] الأمرين أعني صحة صلاتهما في موضع آخر ، وتأخير صلاتهما إلى وقت غير وقت النهي الذي طاف فيه ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، قال : باب الطواف بعد الصبح والعصر ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما : يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس ، وطاف
عمر بعد الصبح ، فركب حتى صلى الركعتين
بذي طوى . وفعل
عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري يدل على عدم اشتراط كون الركعتين خلف المقام ، بل تصح صلاتهما في أي موضع صلاهما فيه ، وأن تأخيرهما عن وقت النهي هو الصواب ، وممن قال به :
nindex.php?page=showalam&ids=44أبو سعيد الخدري ،
nindex.php?page=showalam&ids=178ومعاذ بن عفراء ،
ومالك ، وأصحابه : وعزاه بعضهم إلى الجمهور ، وقد قدمنا مرارا قول من يقول من أهل العلم : إن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي في أوقات النهي ، إلا أن القاعدة المقررة في الأصول : أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وأصحابه : إن
صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة ، واستدلوا لذلك بدليلين :
أحدهما : عام وهو أن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي ; لأن سببها الخاص ، يخرجها من عموم النهي ، كركعتي الطواف فإنهما لسبب خاص هو الطواف . وكتحية المسجد في وقت النهي ، ونحو ذلك ، وأحدهما خاص : وهو ما ورد في خصوص البيت الحرام ، كحديث
nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008636 " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " ، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وصححه
الترمذي ، ورواه أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ،
nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني ، قال
ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث : رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأحمد ، وأصحاب السنن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13114وابن خزيمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ،
nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني ،
والحاكم من حديث
أبي الزبير ، عن
عبد الله بن باباه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم ، وصححه
الترمذي ، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني من وجهين آخرين ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17193نافع بن جبير ، عن أبيه ، ومن طريقين آخرين عن
جابر ، وهو معلول ، فإن المحفوظ عن
أبي الزبير ، عن
عبد الله بن باباه ، عن
جبير ، لا عن
جابر . وأخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني أيضا ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من رواية
مجاهد عنه ، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من رواية
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ورواه
أبو نعيم في تاريخ
أصبهان ،
والخطيب في التلخيص من طريق
ثمامة بن عبيدة ، عن
أبي الزبير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16630علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، وهو معلول . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي من طريق
سعيد بن أبي راشد ، عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة [ ص: 412 ] حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008637 " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " ، الحديث ، وزاد في آخره :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003080 " من طاف فليصل " ؛ أي : حين طاف ، وقال : لا يتابع عليه ، وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري . وروى
البيهقي من طريق
عبد الله بن باباه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء : أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس ، فصلى الركعتين ، وقال : إن هذه البلدة ليست كغيرها .
تنبيه
عزا
المجد ابن تيمية حديث
جبير لمسلم ، فإنه قال : رواه الجماعة إلا
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري . وهذا وهم منه تبعه عليه
المحب الطبري ، فقال : رواه السبعة إلا
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ،
وابن الرفعة ، فقال : رواه
مسلم ، ولفظه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008638 " لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ، " وكأنه والله أعلم : لما رأى
ابن تيمية عزاه إلى الجماعة ، دون
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري اقتطع
مسلما من بينهم ، واكتفى به عنهم ، ثم ساقه باللفظ الذي أورده
ابن تيمية ، فأخطأ مكررا .
فائدة
قال
البيهقي : يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة صلاة الطواف خاصة : وهو الأشبه بالآثار ، ويحتمل جميع الصلوات . انتهى كلام
ابن حجر في التلخيص الحبير .
وهذا الذي ذكرنا عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وأصحابه من جواز صلاة ركعتي الطواف في أوقات النهي بلا كراهة ، حكاه
ابن المنذر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=17والحسين بن علي ،
وابن الزبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس ،
وعطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=14946والقاسم بن محمد ،
وعروة ،
ومجاهد ،
وأحمد ،
وإسحاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور . انتهى بواسطة نقل
النووي في شرح المهذب .
ومما استدلوا به على ذلك ما رواه
مجاهد عن
أبي ذر مرفوعا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008639 " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة " ، قال
ابن حجر في التلخيص : في هذا الحديث رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أخبرنا
عبد الله بن المؤمل ، عن
حميد مولى غفرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=7246قيس بن سعد ، عن
مجاهد ، وفيه قصة وكرر الاستثناء ثلاثا . ورواه
أحمد ، عن
يزيد ، عن
عبد الله بن المؤمل إلا أنه لم يذكر
حميدا في سنده . ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=14971سعيد بن سالم ، عن
عبد الله بن المؤمل ، فلم يذكر
قيسا ، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي من طريق
اليسع بن طلحة ، وسمعت
مجاهدا يقول : بلغنا أن
أبا ذر فذكره ،
وعبد الله ضعيف ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه . وقال
البيهقي : فقال تفرد به
عبد الله ولكن تابعه
nindex.php?page=showalam&ids=12377إبراهيم بن طهمان ،
[ ص: 413 ] ثم ساقه بسنده إلى
nindex.php?page=showalam&ids=15825خلاد بن يحيى قال : ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12377إبراهيم بن طهمان ، ثنا
حميد مولى غفرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=7246قيس بن سعد ، عن
مجاهد قال : جاءنا
أبو ذر فأخذ بحلقة الباب ، الحديث . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم الرازي : لم يسمع
مجاهد من
أبي ذر ، وكذا أطلق ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر ،
والبيهقي ،
والمنذري ، وغير واحد . قال
البيهقي : قوله في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=12377إبراهيم بن طهمان : جاءنا
أبو ذر ؛ أي : جاء بلدنا .
قلت : ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة في صحيحه ، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=14971سعيد بن سالم كما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي ، وقال : أنا أشك في سماع
مجاهد ، من
أبي ذر ، انتهى كلام
ابن حجر في التلخيص الحبير .
هذا هو حاصل ما احتج به
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وأصحابه ، ومن وافقهم على جواز صلاة ركعتي الطواف ، في أوقات النهي وحجة مخالفيهم هي عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في تلك الأوقات وظاهرها العموم .
وقد قال
الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار : وأنت خبير بأن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة ; لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه ، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر ، لما عرفت غير مرة انتهى منه ، وهو كما قال رحمه الله .
والقاعدة المقررة في الأصول : أن النصين إذا كان بينهما عموم ، وخصوص من وجه ، فإنهما يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها ، فيجب الترجيح بينهما . كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر
وإيضاح كون حديث
جبير المذكور بينه ، وبين أحاديث النهي المذكورة عموم وخصوص من وجه ، كما ذكره
الشوكاني رحمه الله : هو أن أحاديث النهي عامة في
مكة وغيرها ، خاصة في أوقات النهي . وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم عام في أوقات النهي وغيرها ، خاص
بمكة حرسها الله ، فتختص أحاديث النهي بأوقات النهي في غير
مكة ، ويختص حديث
جبير بالأوقات التي لا ينهى عن الصلاة فيها
بمكة ، ويجتمعان في أوقات النهي في
مكة ، فعموم أحاديث النهي يشمل
مكة وغيرها ، وعموم إباحة الصلاة في جميع الزمن في حديث
جبير ، يشمل أوقات النهي وغيرها في
مكة فيظهر التعارض في أوقات النهي في
مكة ، فيجب الترجيح . وأحاديث النهي أرجح من حديث
جبير من وجهين :
أحدهما : أنها أصح منه لثبوتها في الصحيح .
[ ص: 414 ] والثاني : هو ما تقرر في الأصول ، أن النص الدال على النهي يقدم على النص الدال على الإباحة ; لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، كما قدمناه مرارا . والعلم عند الله تعالى .