[ ص: 434 ] المسألة الثامنة
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن
الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه ، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر ، فمن طلع فجر يوم النحر وهو لم يأت
عرفة فقد فاته الحج إجماعا ، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام ، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه ، ولزمه دم عند المالكية ، خلافا لجماهير أهل العلم القائلين : بأنه لا دم عليه ، وما ذكره
النووي عن بعض الخراسانيين : من أن الوقوف بالليل لا يجزئ ولا يصح به الحج ، حتى يقف معه بعض النهار ظاهر السقوط لمخالفته للنص ، وعامة أهل العلم ، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك ، وهو رواية عن
أحمد ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأبي حنيفة ،
وأحمد في الرواية الأخرى : حجه صحيح ، وعليه دم ، ولا خلاف بين العلماء : أن
عرفة كلها موقف .
والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن ، وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر : ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وغيرهم من حديث
عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008660الحج عرفة ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج " ، قال
ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه
أحمد ، وأصحاب السنن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ،
والحاكم ،
nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني ،
والبيهقي من حديث
عبد الرحمن بن يعمر ، قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف
بعرفة ، وأتاه ناس من
أهل نجد فقالوا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008672يا رسول الله ، كيف الحج ؟ فقال : " الحج عرفة من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه " لفظ
أحمد وفي رواية
لأبي داود "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008673من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وألفاظ الباقين نحوه .
وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=14269للدارقطني والبيهقي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008660الحج عرفة الحج عرفة " . انتهى من التلخيص .
وفي سنن
أبي داود :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008674الحج الحج يوم عرفة ، بتكرير لفظة الحج . وفي سنن
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008675فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه في سننه ، بعد أن ساق الحديث باللفظ الذي ذكره صاحب التلخيص : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى : ما أرى
nindex.php?page=showalam&ids=16004للثوري حديثا أشرف منه . وقال
النووي في شرح المهذب : حديث
عبد الرحمن الديلي صحيح رواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ، وآخرون بأسانيد صحيحة .
[ ص: 435 ] وهذا لفظ
الترمذي ، عن
عبد الرحمن بن يعمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008676أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الحج ؟ فأمر مناديا ينادي : الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج . وفي رواية
أبي داود : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008677فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فنادى : الحج الحج يوم عرفة ، من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتم حجه " وفي رواية
البيهقي ، عن
عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008678الحج عرفات الحج عرفات ، من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وإسناد هذه الرواية صحيح ، وهو من رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة .
قلت : عن
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة : ليس عندكم
بالكوفة حديث أشرف ولا أحسن من هذا . انتهى كلام
النووي .
ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل ، وجزء من النهار ، من بعد الزوال : أن وقوفه تام ، هو ما ثبت في الروايات الصحيحة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل وقال : لتأخذوا عني مناسككم " .
فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك ، ما رواه
مسلم في صحيحه في حديث
جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008679فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس إلى أن قال : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء ، إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح : أنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال ، وبين جزء قليل من الليل مع قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008644لتأخذوا عني مناسككم " ، ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه
بعرفة على جزء من الليل ، دون النهار فقد تم حجه : حديث
عبد الرحمن بن يعمر المذكور ، فإن فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وجمع : هي
المزدلفة ، وليلتها : هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر .
ودليل من ألزموه دما مع وقوفه
بعرفة في جزء من الليل : وهم المالكية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالليل ، بل وقف معه جزءا من النهار ، فتارك الوقوف بالنهار تارك نسكا . وفي الأثر المروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم ، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث
الديلي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008680فقد تم حجه " لا يساعد على لزوم الدم ، لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة
[ ص: 436 ] إلى الجبر بدم ، فهو يؤيد مذهب الجمهور ، والعلم عند الله تعالى .
ودليل من قال : بأن من
اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار دون الليل : أن وقوفه صحيح ، وحجه تام حديث
عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008681أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جبلي طيئ . أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي . والله ما تركت من جبل ، إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه " ا هـ .
قال
المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : رواه الخمسة ، وصححه
الترمذي ، وهو حجة في أن نهار
عرفة كله وقت للوقوف ، وقال
ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه
أحمد ، وأصحاب السنن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ،
والحاكم ،
nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني ، ثم قال : وصحح هذا الحديث
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني ،
والحاكم ،
nindex.php?page=showalam&ids=12815والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما .
وقال
النووي في شرح المهذب في حديث
عروة بن مضرس : هذا رواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه وغيرهم ، بأسانيد صحيحة . قال
الترمذي : هو حديث حسن صحيح .
ودليل أن
عرفة كلها موقف ما رواه
مسلم في صحيحه : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16665عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، عن
جعفر ، حدثني أبي ، عن
جابر في حديثه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008682نحرت ههنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف " ، انتهى من صحيح
مسلم .
وقال
المجد في المنتقى : بعد أن ساق هذا الحديث بلفظ
مسلم الذي سقناه به : رواه
أحمد ،
ومسلم ،
وأبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478ولابن ماجه وأحمد أيضا نحوه وفيه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008683وكل فجاج مكة طريق ، ومنحر " ، وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة جمع . وإجماعهم على أن
ما بعد الزوال من يوم عرفة وقت للوقوف . وأما ما قبل الزوال من يوم
عرفة ، فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتا للوقوف ، وخالف
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله الجمهور في ذلك قائلا : إن
يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه وقت للوقوف ، واحتج لذلك بحديث
عروة بن المضرس المذكور آنفا فإن فيه : " وقد وقف
بعرفة ليلا أو
[ ص: 437 ] نهارا ، فقد تم حجه ، " فقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008684ليلا أو نهارا " يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار .
وقد قدمنا قول
المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وحجة الجمهور هي : أن المراد بالنهار في حديث
عروة المذكور خصوص ما بعد الزوال ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله . قالوا : ففعله صلى الله عليه وسلم ، وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله : أو نهارا .
والحاصل : أن الوقوف
بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا ، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعا ، وأن من اقتصر على الليل دون النهار ، فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور ، خلافا للمالكية القائلين بلزوم الدم ، وأن من اقتصر على النهار دون الليل ، لم يصح وقوفه عند المالكية . وعند جمهور العلماء : حجه صحيح . منهم
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأبو حنيفة ،
وعطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، وهو الصحيح من مذهب
أحمد .
ولكن اختلفوا في وجوب الدم ، فقال
أحمد وأبو حنيفة : يلزمه دم ، وعن الشافعية قولان : أحدهما : لا دم عليه . وصححه
النووي وغيره . والثاني : عليه دم . قيل وجوبا ، وقيل : استنانا ، وقيل : ندبا . والأصح أنه سنة على القول به ، كما جزم به
النووي . وأنما قيل : الزوال من يوم
عرفة ليس وقتا للوقوف عند جماهير العلماء ، خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=12251للإمام أحمد رحمه الله ، وقد رأيت أدلة الجميع .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار ، أو النهار من بعد الزوال دون الليل ، فأظهر الأقوال فيه دليلا : عدم لزوم الدم . أما المقتصر على الليل فلحديث
عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه الذي قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح . وفيه عند
أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008675فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه . هذا لفظ
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ، ولفظ
أحمد :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008685من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه ، ا هـ . ولفظ
أحمد المذكور بواسطة نقل
ابن حجر في التلخيص فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008680فقد تم حجه " مرتبا ذلك على إتيانه
عرفة ، قبل طلوع فجر يوم النحر نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلا : أن حجه تام ، وظاهر التعبير بلفظ التمام ، عدم لزوم الدم ، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو
[ ص: 438 ] السنة ، وعلى هذا جمهور أهل العلم ، خلافا للمالكية . وأما المقتصر على النهار دون الليل ، فلحديث
عروة بن مضرس الطائي ، وقد قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح ، وبينا أن فيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008686وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، فقوله صلى الله عليه وسلم : فقد تم حجه مرتبا له بالفاء على وقوفه
بعرفة ليلا أو نهارا ، يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك ، والتعبير بلفظ التمام ظاهر ، في عدم لزوم الجبر بالدم ، كما بيناه فيما قبله ، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث ، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار ، هو الصحيح من مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لدلالة هذا الحديث على ذلك ، كما ترى . والعلم عند الله تعالى .
وأما الاكتفاء بالوقوف يوم
عرفة قبل الزوال ، فقد قدمنا : أن ظاهر حديث
ابن مضرس المذكور يدل عليه ; لأن قوله صلى الله عليه وسلم : أو نهارا صادق بأول النهار وآخره . كما ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد . ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه من بعده ، كالتفسير للمراد بالنهار في الحديث المذكور ، وأنه بعد الزوال ، وكلاهما له وجه من النظر ، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط ، والعلم عند الله تعالى .
وحجة
مالك : في أن الوقوف نهارا لا يجزئ إلا إذا وقف معه جزءا من الليل : هي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008644لتأخذوا عني مناسككم " فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار ، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه ، وكان قد وقف قبل ذلك
بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه كما ترى .
واعلم : أنه إن
وقف بعد الزوال بعرفة ثم أفاض منها قبل الغروب ثم رجع إلى عرفة في ليلة جمع : أن وقوفه تام ولا دم عليه في أظهر القولين ، لأنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار ، خلافا
لأبي حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور القائلين : بأن الدم لزمه بإفاضته ، قبل الليل وأن رجوعه بعد ذلك ليلا لا يسقط عنه ذلك الدم بعد لزومه . والله تعالى أعلم .