فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في صحة
الوقوف دون الطهارة ، فيصح وقوف الجنب والحائض ، وقد قدمنا دليل ذلك في حديث
عائشة المتفق عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فيه بأن تفعل كل ما يفعله الحاج ، غير أن لا تطوف بالبيت .
[ ص: 439 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا في صحة
وقوف المغمى عليه بعرفة . قال
النووي في شرح المهذب : ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يصح وقوف المغمى عليه ، وحكاه
ابن المنذر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأحمد ،
وإسحاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور ، قال : وبه أقول ، وقال
مالك ،
وأبو حنيفة : يصح .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ليس في وقوف المغمى عليه نص من كتاب ولا سنة يدل على صحته أو عدمها .
وأظهر القولين عندي قول من قال بصحته لما قدمنا من أنه لا يشترط له نية تخصه ، وإذا سلمنا صحته بدون النية ، كما قدمنا أنه هو الصواب فلا مانع من صحته من المغمى عليه ، كما يصح من النائم ، واحتج من خالف في ذلك بأن المغمى عليه ليس من أهل العبادة حتى يصح وقوفه ، وممن قال بعدم صحته : الحسن ، وممن قال بصحته :
عطاء ، والله تعالى أعلم .
الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن
وقف بعرفات ، وهو لا يعلم أنها عرفات ، قال
النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن مذهبنا صحة وقوفه ، وبه قال
مالك ،
وأبو حنيفة ، وحكى
ابن المنذر عن بعض العلماء أنه لا يجزئه . انتهى منه .
الفرع الرابع : اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في مشروعية
جمع الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة ، والمغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة ، وقد ثبت ذلك في صحيح
مسلم وغيره من حديث
جابر رضي الله عنه .
وأظهر الأقوال دليلا : أنه يؤذن للظهر فقط ، ويقيم لكل واحدة منهما .
وأظهر قولي أهل العلم عندي : أن جميع الحجاج يجمعون الظهر والعصر ، ويقصرون ، وكذلك في جمع التأخير في
مزدلفة يقصرون العشاء ، وأن
أهل مكة وغيرهم في ذلك سواء ، وأن حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007925أتموا فإنا قوم سفر " ، إنما قاله لهم النبي صلى الله عليه وسلم في
مكة لا في
عرفة ولا في
مزدلفة ، وروى
مالك بإسناده الصحيح في الموطإ عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أنه لما قدم
مكة صلى بهم ركعتين ، ثم انصرف فقال : يا
أهل مكة ، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر . ثم صلى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ركعتين
بمنى ، ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا ، وممن قال بأن
أهل مكة يقصرون
بعرفة ومزدلفة ومنى :
مالك ، وأصحابه ،
nindex.php?page=showalam&ids=14946والقاسم بن محمد ،
وسالم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي . وممن قال بأن
أهل مكة يتمون صلاتهم في
عرفة ،
ومزدلفة ،
ومنى : الأئمة
[ ص: 440 ] الثلاثة :
أبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وأحمد ،
وعطاء ،
ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
nindex.php?page=showalam&ids=17293ويحيى القطان ،
وابن المنذر ، كما نقله عنهم
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في المغني ، وعزا
النووي هذا القول للجمهور .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يخفى أن ظاهر الروايات : أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع من معه جمعوا وقصروا ، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في
منى ، ولا
مزدلفة ، ولا
عرفة ، بل ذلك الإتمام في
مكة ، وقد قدمنا أن
تحديد مسافة القصر لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأن أقوى الأقوال دليلا : هو أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة تقصر فيه الصلاة كما أوضحنا ذلك بأدلته في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] .
قال
ابن القيم في زاد المعاد ما نصه : فلما أتمها - يعني الخطبة - يوم
عرفة ، أمر
بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم الجمعة . فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة ، ثم أقام ، فصلى العصر ركعتين أيضا ، ومعه
أهل مكة وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ، ولا بترك الجمع ، ومن قال إنه قال لهم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008687أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " ، فقد غلط عليه غلطا بينا ، ووهم وهما قبيحا ، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف
مكة ، حيث كانوا في ديارهم مقيمين ، ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن
أهل مكة يقصرون ، ويجمعون
بعرفة ، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ، ولا بأيام معلومة ، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة ألبتة ، وإنما التأثير لما جعله الله سببا ، وهو السفر . هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه الملحدون . انتهى كلام
ابن القيم .
وقد قدمنا قول من قال : إن القصر والجمع المذكور
لأهل مكة من أجل النسك ، والعلم عند الله تعالى .
ولا يخفى أن حجة من قالوا بإتمام
أهل مكة صلاتهم في
عرفة ومزدلفة ومنى ، هو ما قدمنا من تحديدهم للمسافة بأربعة برد ، أو ثلاثة أيام .
وعرفة ،
ومزدلفة ،
ومنى أقل مسافة من ذلك ، قالوا : ومن سافر دون مسافة القصر أتم صلاته ، هذا هو دليلهم .
الفرع الخامس : اعلم أن الصعود على
جبل الرحمة الذي يفعله كثير من العوام
[ ص: 441 ] لا أصل له ، ولا فضيلة فيه ; لأنه لم يرد في خصوصه شيء بل هو كسائر أرض
عرفة ، وعرفة كلها موقف ، وكل أرضها سواء إلا موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالوقوف فيه أفضل من غيره ، كما قاله غير واحد ، وبذلك تعلم أن ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16935أبو جعفر بن جرير الطبري ،
والماوردي من استحباب صعود جبل الرحمة لا يعول عليه . والعلم عند الله تعالى .
والتحقيق :
أن عرنة ليست من عرفة ، فمن وقف
بعرنة لم يجزئه ذلك وما يذكر عن
مالك من أن وقوفه
بعرنة يجزئ وعليه دم خلاف التحقيق الذي لا شك فيه ، والظاهر أنه لم يصح عن
مالك .