[ ص: 459 ] فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : اعلم أنهم اختلفوا في الحلق ، هل هو نسك كما قدمنا في سورة البقرة ؟
فمن قال : هو نسك قال : إن التحلل الأول لا يكون إلا بعد الرمي ، والحلق معا ، ومن قال : إن الحلق غير نسك قال : يتحلل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة
العقبة يوم النحر .
وأظهر القولين عندي : أن الحلق نسك ، كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى :
فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي الآية [ 2 \ 196 ] .
الفرع الثاني : في مذاهب العلماء في مسألة
التحلل : فمذهب
مالك : أنه بمجرد رمي جمرة
العقبة يوم النحر : يحل له كل شيء إلا النساء ، والصيد ، والطيب ، والطيب مكروه عنده بعد رميها لا حرام ، وإن طاف طواف الإفاضة . وكان قد سعى حل له كل شيء ، ومذهب
أبي حنيفة : أنه إذا حلق ، أو قصر حل التحلل الأول ، ويحل به كل شيء عنده إلا النساء ، وإن طاف طواف الإفاضة حل له النساء ، وهم يقولون : إن حل النساء بعد الطواف إنما هو بالحلق السابق ، لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل دون الطواف ، غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد ، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت .
والدليل على ذلك : أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شيء حتى يحلق ، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق ، إلا أن الحلق عندهم بعد رمي جمرة
العقبة ، وبعد النحر إن كان الحاج يريد النحر ، ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في هذه المسألة هو : أنه على القول بأن الحلق نسك يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة هي : رمي جمرة
العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة ، فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول ، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني ، وبالأول يحل عنده كل شيء إلا النساء ، وبالثاني تحل النساء ، وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك ، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين : هما رمي جمرة
العقبة ، وطواف الإفاضة . ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني ، ومذهب الإمام
أحمد هو أنه إن رمى جمرة
العقبة ، ثم حلق تحلل التحلل الأول ، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء ، فإن طاف طواف الإفاضة ، حلت له النساء .
[ ص: 460 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في المغني بعد أن ذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب
أحمد . وهذا قول
ابن الزبير ،
وعائشة ،
وعلقمة ،
وسالم ،
nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس ،
والنخعي ،
وعبد الله بن الحسين ،
nindex.php?page=showalam&ids=15786وخارجة بن زيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وروي أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وعن
أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج ; لأنه أغلظ المحرمات ، ويفسد النسك ، بخلاف غيره . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يحل له كل شيء إلا النساء ، والطيب . وروي ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16288وعباد بن عبد الله بن الزبير ، لأنه من دواعي الوطء فأشبه القبلة ، وعن
عروة : أنه لا يلبس القميص ، ولا العمامة ، ولا يتطيب ، وروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا انتهى كلام صاحب المغني .
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في المسألة ، فهذه تفاصيل أدلتهم .
أما حجة
مالك في أن التحلل الأول يحل به ما سوى النساء والصيد والطيب : أما بالنسبة إلى الصيد ، فلم أر له مستندا من النقل ، إلا أمرين :
أحدهما : أثر مروي عن
مكحول ، عن
عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد : ذكر هذا الأثر صاحب المهذب ، وقال
النووي في شرحه : وأما الأثر المذكور عن
عمر رضي الله عنه فهو مرسل . لأن
مكحولا لم يدرك
عمر فحديثه عنه منقطع ومرسل . والله أعلم .
والثاني : التمسك بظاهر قوله تعالى :
لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم [ 5 \ 95 ] لأن حرمة الجماع المتفق عليها بعد رمي جمرة
العقبة دليل على بقاء إحرامه في الجملة ، فيشمله عموم
لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية ، لما حرم عليه الوطء .
وأما حجته أعني
مالكا بالنسبة إلى النساء والطيب ، فهي ما روى في موطئه عن
نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=16430وعبد الله بن دينار ، عن
عبد الله بن عمر : أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس
بعرفة ، وعلمهم أمر الحج ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم
منى ، فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء ، والطيب لا يمس أحد نساء ، ولا طيبا حتى يطوف بالبيت ا هـ .
ومما يستدل به
لمالك على ذلك ما رواه
الحاكم في المستدرك : حدثنا
أبو [ ص: 461 ] عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ، ثنا
إبراهيم بن عبد الله ، أنبأ
زيد بن هارون ، أنبأ
nindex.php?page=showalam&ids=17314يحيى بن سعيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد ، عن
عبد الله بن الزبير قال : من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء الآخرة ، والصبح
بمنى ، ثم يغدو إلى
عرفة ، الحديث ، وفيه : فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء ، والطيب حتى يزور البيت ا هـ . ثم قال : هذا حديث على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ولم يتعقبه عليه الذهبي .
هذا هو حاصل حجة
مالك وأصحابه في أن التحلل الأول يحل به ، ما عدا النساء والصيد ، والطيب ، وقد قدمنا أن الطيب بعد رمي الجمرة مكروه عنده لا حرام .
وأما حجة من قال : إنه إن رمى جمرة
العقبة وحلق : حل له كل شيء إلا النساء :
كأحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ومن وافقهما ، فمنها حديث
عائشة المتفق عليه ، قالت : كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت . هذا لفظ
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه ، ولفظ
مسلم في صحيحه
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008716عن عائشة قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت ، وفي لفظ : طيبت
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008717رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم ، ولحله حين أحل . قبل أن يطوف بالبيت . وقد ذكر
مسلم لهذا الحديث ألفاظا متعددة متقاربة معناها واحد .
منها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت .
ومن أدلتهم على ذلك : ما رواه الإمام
أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008718عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء . قال رجل : والطيب ؟ فقال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك ، أفطيب ذلك أم لا ؟ قال
النووي في شرح المهذب في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هذا : وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي بإسناده ، عن
الحسن بن عبد الله العرني ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008719إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء " هكذا رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه مرفوعا ، وإسناده جيد ، إلا أن
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين وغيره ، قالوا : يقال : إن
الحسن العرني لم يسمع
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ورواه
البيهقي موقوفا على
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . انتهى كلام
النووي رحمه الله .
والذي رأيته في سنن
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه : أن حديث
الحسن العرني المذكور موقوف عندهما على
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، إلا ما ذكره من أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتضمخ بالمسك . وقال
[ ص: 462 ] ابن حجر في تهذيب التهذيب في
الحسن العرني المذكور ، قال
أحمد : لم يسمع من
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس شيئا ، وقال
أبو حاتم : لم يدركه ا هـ . والعرني بضم العين ، وفتح الراء ثم نون : نسبة إلى عرينة بطن من
بجيلة .
ومن أدلتهم على ذلك : ما رواه
أبو داود في سننه من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15689الحجاج بن أرطاة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16693عمرة بنت عبد الرحمن ، عن
عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008720إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء " ا هـ .
ومعلوم أن هذا الحديث ضعيف من وجهين :
أحدهما : هو ما قدمنا من تضعيف
nindex.php?page=showalam&ids=15689الحجاج بن أرطاة .
والثاني : أن
الحجاج المذكور لم يسمع من
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري . وقد قال
أبو داود في سننه بعد أن ساق هذا الحديث : هذا حديث ضعيف :
الحجاج لم ير
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ولم يسمع منه ، وقال
النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : أما حديث
عائشة رضي الله عنها فرواه
أبو داود بإسناد ضعيف جدا من رواية
nindex.php?page=showalam&ids=15689الحجاج بن أرطاة ، وقال : هو حديث ضعيف اهـ .
هذا هو حاصل حجة من قال : إنه يحل له بعد رمي جمرة
العقبة كل شيء إلا النساء ، وأما ما ذكرنا عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة : هي الرمي ، والحلق ، والطواف ، وتحل النساء بالثالث منها ، بناء على أن الحلق نسك ، وعلى أنه ليس بنسك يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين ، هما : الرمي ، والطواف وتحل له النساء بالثاني منهما لم نعلم له نصا يدل عليه ، هكذا والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل ، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق ، فجعل هو الطواف كواحد منهما . والله تعالى أعلم .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول ، لحديث
عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك . وكذلك لبس الثياب ، وقضاء التفث ، وأن الجماع لا يحل إلا بالتحلل الأخير ، وأما حلية الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر ; لأن الأحاديث التي فيها التصريح ، بأنه يحل له كل شيء إلا النساء ، قد علمت ما فيها من الكلام ، وحديث
عائشة المتفق عليه لم يتعرض لحل الصيد .
وظاهر قوله :
لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول ; لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة ، وإن كان قد حل له بعض
[ ص: 463 ] ما كان حراما عليه ، والله تعالى أعلم .