الفرع الثاني : اعلم أنه يجب
الترتيب في رمي الجمار أيام التشريق ، فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، فيرميها بسبع حصيات مثل حصى الخذف ، يكبر مع كل حصاة ، ثم يقف ، فيدعو طويلا ، ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى ، فيرميها كالتي قبلها ، ثم يقف ، فيدعو طويلا ، ثم ينصرف إلى جمرة
العقبة ، فيرميها كذلك ، ولا يقف عندها بل ينصرف إذا رمى وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر بأخذ المناسك عنه . فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور . ففي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008725من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر على إثر كل حصاة ، ثم يتقدم ، حتى يسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل ، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ويقوم طويلا ، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ثم ينصرف فيقول : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ا هـ .
روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية ، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008644لتأخذوا عني مناسككم " فإن لم يرتب الجمرات ، بأن بدأ بجمرة
العقبة لم يجزئه الرمي منكسا لأنه خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007135من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا ، فيكون مردودا ، وبهذا قال
[ ص: 465 ] مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وأحمد ، وجمهور أهل العلم ، وقال
أبو حنيفة : الترتيب المذكور سنة ، فإن نكس الرمي أعاده وإن لم يعد أجزأه ، وهو قول
الحسن ،
وعطاء ، واحتجوا بأدلة لا تنهض . وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور : إن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة
العقبة ، ثم الوسطى ، ثم الأولى ، أو بدأ بالوسطى ، ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى لعدم الترتيب في الوسطى ، والأخيرة ، فعليه أن يرمي الوسطى ، ثم الأخيرة ، ولو رمى جمرة
العقبة . ثم الأولى ، ثم الوسطى أعاد جمرة
العقبة وحدها هذا هو الظاهر .
واعلم أن العلماء اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الرمي ، ليس فيها نص ، وسنذكر هنا بعض ذلك مما يظهر لنا أنه أقرب للصواب ، مع الاختصار ، لعدم النصوص في ذلك .
فمن ذلك : أن الأقرب فيما يظهر لنا أنه لا بد من
رمي الحصاة بقوة ، فلا يكفي طرحها ، ولا وضعها باليد في المرمى ; لأن ذلك ليس برمي في العرف خلافا لمن قال : إنه رمي ، وأنه لا بد من
وقوع الحصاة في نفس المرمى ، وهو الجمرة التي يحيط بها البناء واستقرارها فيه خلافا لمن قال : إنها إن وقعت في المرمى ، ثم تدحرجت حتى خرجت منه : أنه يجزئه ، وأنها لو ضربت شيئا دون المرمى ، ثم طارت ، وسقطت في المرمى : أن ذلك يجزئه بخلاف ما لو جاءت في محمل ، أو في ثوب رجل ، فتحرك المحمل ، أو الرجل ، فسقطت في المرمى ، فإنها لا تجزئ ، وكذلك لو جاءت دون المرمى ، فأطارت حصاة أخرى ، فجاءت هذه الحصاة الأخرى في المرمى ، فإنها لا تجزئه . لأن الحصاة التي رماها لم تسقط في المرمى ، وإنما وقعت فيه الحصاة التي أطارتها ، وأنها إن أخطأت المرمى ، ولكن سقطت قريبا منه أن ذلك لا يجزئه ، خلافا لمن قال : يجزئه ، وأنه لا ينبغي أن يرمي إلا بالحجارة ، فلا ينبغي الرمي بالمدر ، والطين ، والمغرة ، والنورة ، والزرنيخ ، والملح ، والكحل ، وقبضة التراب ، والأحجار النفيسة : كالياقوت ، والزبرجد ، والزمرد ، ونحو ذلك ، خلافا لمن أجاز الرمي بذلك .
ولا يجوز
الرمي بالخشب ، والعنبر ، واللؤلؤ ، والجواهر ، والذهب ، والفضة ، والأقرب أيضا أن الحصاة إن وقعت في شقوق البناء المنتصب في وسط الجمرة ، وسكنت فيها أنها لا تجزئ ، لأنها وقعت في هواء المرمى ، لا في نفس المرمى خلافا لمن قال : إنها تجزئه ، والأقرب أنه لا يلزم غسل الحصى لعدم الدليل على ذلك ، وأنه لو
رمى بحصاة نجسة أجزأه ذلك لصدق اسم الرمي عليه ، وعدم نص على اشتراط طهارة
[ ص: 466 ] الحصى مع كراهة ذلك عند بعض أهل العلم ، وقول بعضهم : بعدم الإجزاء ، والأقرب أنه لو
رمى بحصاة قد رمى بها أنها تجزئه لصدق اسم الرمي عليها ، وعدم النص على منع ذلك ، ولا على عدم إجزائه ولكن الأحوط في الجميع الخروج من الخلاف ، كما قال بعضهم :
وأن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفا فاستبن
وفي كتب الفروع هنا أشياء تركناها لكثرتها .
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في
المعنى الذي منه الجمرة ، فقال بعض أهل العلم : الجمرة في اللغة : الحصاة ، وسميت الجمرة التي هي موضع الرمي بذلك ، لأنها المحل الذي يرمى فيه بالحصى ، وعلى هذا فهو من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه ، وهو أسلوب عربي معروف ، وهو عند البلاغيين من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، والتجمير رمي الحصى في الجمار ، ومنه قول
ابن أبي ربيعة :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
والمجمر بصيغة اسم المفعول مضعفا : هو الموضع الذي ترمى فيه الجمار ، ومنه قول
حذيفة بن أنس الهذلي :
لأدركهم شعث النواصي كأنهم سوابق حجاج توافي المجمرا
وقال بعض أهل العلم : أصل الجمرة من التجمر بمعنى التجمع ، تقول العرب : تجمر القوم ، إذا اجتمعوا ، وانضم بعضهم إلى بعض ، وجمرهم الأمر : أحوجهم إلى التجمر ، وهو التجمع ، وجمر الشيء : جمعه ، وجمر الأمير الجيش ، إذا أطال حبسهم مجتمعين بالثغر ، ولم يأذن لهم في الرجوع والتفرق ، وروى
الربيع : أن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنشده في ذلك قول الشاعر :
وجمرتنا تجمير كسرى جنوده ومنيتنا حتى نسينا الأمانيا
والجمار : القوم المجتمعون ، ومنه قول الأعشى :
فمن مبلغ وائلا قومنا وأعني بذلك بكرا جمارا
[ ص: 467 ] ؛ أي : مجتمعين ، وعلى هذا فاشتقاق الجمرة من التجمر بمعنى التجمع ; لاجتماع الحجيج عندها يرمونها ، وقيل : لأن الحصى يتجمع فيها ، وقيل : اشتقاق الجمرة من أجمر إذا أسرع ; لأن الناس يأتون مسرعين لرميها . وقيل : أصلها من جمرته إذا نحيته ، وأظهرها القول الأول والثاني ، والعلم عند الله تعالى .