الفرع الثالث : اعلم أن
أهل مكة يهلون من مكة ، وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفا : " حتى أهل
مكة ، يهلون منها " ، وفي لفظ : " حتى أهل
مكة يهلون من
مكة " ، وكلا اللفظين في الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المذكور ، وهذا بالنسبة إلى الإهلال بالحج ، لا خلاف فيه بين أهل العلم إلا ما ذكره بعضهم من أن المكي يجوز له أن يحرم من أي
[ ص: 488 ] موضع من الحرم ، ولو خارجا عن
مكة وهو ظاهر السقوط لمخالفته للنص الصريح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما إهلال المكي بالعمرة ، فجماهير أهل العلم على أنه لا يهل بالعمرة من
مكة ، بل يخرج إلى الحل ، ويحرم منه ، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وحكى غير واحد عليه الإجماع .
قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي : الوقت لأهل
مكة الحرم في الحج ، والحل في العمرة للإجماع على ذلك . انتهى منه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في المغني في الكلام على ميقات المكي : وإن أراد العمرة فمن الحل ، لا نعلم في هذا خلافا . انتهى منه .
وقال
ابن حجر في فتح الباري في الكلام على ميقات أهل
مكة : وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل ، كما سيأتي بيانه في أبواب العمرة .
قال
المحب الطبري : لا أعلم أحدا جعل
مكة ميقاتا للعمرة . انتهى محل الغرض منه .
وقال
ابن القيم : إن أهل
مكة لا يخرجون من
مكة للعمرة ، وظاهر صنيع
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أنه يرى إحرامهم من
مكة بالعمرة ، حيث قال : باب مهل أهل
مكة للحج والعمرة ، ثم ساق بسنده حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المذكور ، ومحل الشاهد عنده منه المطلق للترجمة هي قوله : " حتى أهل
مكة من
مكة " فقوله في الترجمة : باب مهل أهل
مكة للحج والعمرة ، وإيراده لذلك ، حتى أهل
مكة يهلون من
مكة دليل واضح على أنه يرى أن أهل
مكة يهلون من
مكة للعمرة والحج معا كما هو واضح من كلامه .
وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن دليل هذا القول هو عموم حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المتفق عليه . الذي فيه حتى أهل
مكة يهلون من
مكة ، والحديث عام بلفظه في الحج والعمرة ، فلا يمكن تخصيص العمرة منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وأما القائلون : بأنه لا بد أن يخرج إلى الحل ، وهم جماهير أهل العلم كما قدمنا ، فاستدلوا بدليلين :
أحدهما : ما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008751أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر nindex.php?page=showalam&ids=72عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة في عمرتها من مكة إلى التنعيم ، وهو أدنى الحل . قالوا : فلو كان الإهلال من
مكة بالعمرة سائغا لأمرها بالإهلال من
مكة ، وأجاب المخالفون عن هذا : بأن
عائشة آفاقية والكلام في أهل
مكة لا في الآفاقيين ، وأجاب الآخرون عن هذا بأن الحديث
[ ص: 489 ] الصحيح دل على أن من مر بميقات لغيره كان ميقاتا له ، فيكون ميقات أهل
مكة في عمرتهم هو ميقات
عائشة في عمرتها ; لأنها صارت معهم عند ميقاتهم .
الدليل الثاني : هو الاستقراء وقد تقرر في الأصول : أن الاستقراء من الأدلة الشرعية ، ونوع الاستقراء المعروف عندهم بالاستقراء التام حجة بلا خلاف ، وهو عند أكثرهم دليل قطعي ، وأما الاستقراء الذي ليس بتام وهو المعروف عندهم بإلحاق الفرد بالأغلب فهو حجة ظنية عند جمهورهم .
والاستقراء التام المذكور هو : أن تتبع الأفراد ، فيؤخذ الحكم في كل صورة منها ، ما عدا الصورة التي فيها النزاع ، فيعلم أن الصورة المتنازع فيها حكمها حكم الصور الأخرى التي ليست محل نزاع .
وإذا علمت هذا فاعلم أن الاستقراء التام أعني تتبع أفراد النسك دل على أن كل نسك من حج ، أو قران ، أو عمرة غير صورة النزاع لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم ، حتى يكون صاحب النسك زائرا قادما على البيت من خارج كما قال تعالى :
يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الآية [ 22 \ 27 ] . فالمحرم بالحج أو القران من
مكة لا بد أن يخرج إلى
عرفات : وهي في الحل ، والآفاقيون يأتون من الحل لحجهم وعمرتهم ، فجميع صور النسك غير صورة النزاع لا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم ، فيعلم بالاستقراء التام أن صورة النزاع لا بد فيها من الجمع أيضا بين الحل والحرم ، وإلى مسألة الاستقراء المذكورة أشار في مراقي السعود بقوله :
ومنه الاستقراء بالجزئي على ثبوت الحكم للكلي فإن يعم غير ذي الشقاق
فهو حجة بالاتفاق
إلخ
وقوله : فإن يعم . . . البيت : يعني أن الاستقراء إذا عم الصور كلها غير صورة النزاع فهو حجة في صورة النزاع بلا خلاف ، والشقاق الخلاف . فقوله : غير ذي الشقاق ؛ أي : غير محل النزاع .
واعلم أن جماعة من أهل العلم يقولون : إن أهل
مكة ليس لهم التمتع ، ولا القران ، فالعمرة في التمتع ، والقران ليست لهم ، وإنما لهم أن يحجوا بلا خلاف والعمرة منهم في غير تمتع ، ولا قران جائزة عند جل من لا يرون عمرة التمتع ، والقران لأهل
مكة ، وممن قال : لا تمتع ، ولا قران لأهل
مكة :
أبو حنيفة ، وأصحابه ، ونقله بعض الحنفية ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
وابن الزبير ، وهو رأي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله كما ذكره في صحيحه ، ومنشأ الخلاف في
أهل مكة هل لهم تمتع ، أو قران ، أو لا ؟ هو اختلاف العلماء
[ ص: 490 ] في مرجع الإشارة في قوله تعالى :
ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فالذين قالوا : لأهل
مكة تمتع ، وقران كغيرهم ، قالوا : الإشارة راجعة إلى الهدي ، والصوم ، ومفهومه أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام إذا تمتع فلا هدي عليه ، ولا صوم ، والذين قالوا : ليس لأهل
مكة تمتع ولا قران ، قالوا : الإشارة راجعة إلى قوله :
فمن تمتع [ 2 \ 196 ] ؛ أي : ذلك التمتع
لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أما من كان أهله حاضري
المسجد الحرام ، فلا تمتع له ، والقران داخل في اسم التمتع في عرف الصحابة ، كما تقدم إيضاحه ، والذين قالوا هذا القول زعموا أن في الآية بعض القرائن الدالة عليه ، منها التعبير باللام في قوله :
لمن لم يكن أهله الآية ; لأن اللام تستعمل فيما لنا لا فيما علينا ، والتمتع لنا أن نفعله ، وأن لا نفعله بخلاف الهدي ، فهو علينا وكذلك الصوم عند العجز عن الهدي ، ومنها : أنه جمع في الإشارة بين اللام والكاف ، وذلك يدل على شدة البعد والتمتع أبعد في الذكر من الهدي والصوم .
وأجاب المخالفون : بأن الإشارة ترجع إلى أقرب مذكور وهو الهدي ، والصوم ، وأن الإشارة إلى القريب إشارة البعيد أسلوب عربي معروف ، وقد ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، ومنه قوله :
ذلك الكتاب [ 2 ] ؛ أي : هذا القرآن . لأن الكتاب قريب ، ولذا تكثر الإشارة إليه بإشارة القريب كقوله :
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وقوله :
وهذا كتاب أنزلناه الآية [ 65 \ 92 ] وأمثال ذلك كثير في القرآن ، ومن إطلاق إشارة البعيد على القريب قول
خفاف بن ندبة السلمي :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
فقد أشار إلى نفسه إشارة البعيد ، ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون بعيدا من نفسه قالوا : واللام تأتي بمعنى على كقوله :
وإن أسأتم فلها [ 7 \ 17 ] ؛ أي : فعليها ، وقوله تعالى :
ويخرون للأذقان [ 17 \ 109 ] ؛ أي : على الأذقان ، ومنه قول الشاعر ، وقد قدمناه في أول سورة هود :
هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم
وفي الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008752واشترطي لهم الولاء " أو أن المراد ذلك الحكم بالهدي والصوم مشروع لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام .
[ ص: 491 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقرب أقوال أهل العلم عندي للصواب في هذه المسألة : أن أهل
مكة لهم أن يتمتعوا ، ويقرنوا وليس عليهم هدي ; لأن قوله تعالى :
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية [ 2 \ 196 ] عام بلفظه في جميع الناس من أهل
مكة ، وغيرهم ولا يجوز تخصيص هذا العموم ، إلا بمخصص يجب الرجوع إليه ، وتخصيصه بقوله :
ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا يجب الرجوع إليه ; لاحتمال رجوع الإشارة إلى الهدي والصوم ، لا إلى التمتع كما أوضحناه ، وأن المكي إذا أراد العمرة خرج إلى الحل فأحرم منه ، والدليل على هذا هو ما قدمناه من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم
عائشة رضي الله عنها مع أخيها لتحرم بعمرتها من التنعيم ، وهو نص متفق على صحته ، وقول من قال : إن النبي أرسلها مع أخيها لتلك العمرة تطييبا لخاطرها ، لا تقوم به حجة ألبتة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرها بعمرة ، وهي نسك وعبادة إلا على الوجه المشروع لعامة الناس لاستواء جميع الناس في أحكام التكليف ، فعمرتها المذكورة نسك قطعا ، والحالة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأداء ذلك النسك عليها لا شك أنها مشروعة لجميع الناس إلا فيما قام دليل يجب الرجوع إليه بالخصوص ، وقصة عمرة
عائشة المذكورة لم يثبت فيها دليل على التخصيص والعلم عند الله تعالى .