الفرع الثامن : في الكلام على مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المتفق عليه ممن أراد النسك ، ومفهومه صادق بصورتين :
إحداهما : أن يمر إنسان على واحد من هذه المواقيت المذكورة وهو لا يريد النسك ، ولا دخول
مكة أصلا كالذي يمر
بذي الحليفة قاصدا
الشام أو
نجدا مثلا وهذه الصورة لا خلاف في أنه لا يلزمه فيها الإحرام ، وأن مفهوم قوله : ممن أراد النسك دالا على أنه لا إحرام عليه في هذه الصورة .
والثانية : هي أن يمر على واحد من هذه المواقيت وهو لا يريد حجا ، ولا عمرة ، ولكنه يريد دخول
مكة لقضاء حاجة أخرى .
وهذه الصورة اختلف فيها أهل العلم ، فقال بعض أهل العلم : لا يجوز لأحد دخول
مكة بغير إحرام ، ولو كان دخوله لغرض آخر غير النسك . وقال بعضهم : إذا كان دخوله
مكة لغرض غير النسك ، فلا مانع من دخوله غير محرم ، والخلاف في هذه المسألة مشهور بين أهل العلم .
وقال
ابن حجر في فتح الباري : في باب دخول
الحرم ومكة بغير إحرام في هذه المسألة : وقد اختلف العلماء في هذا . فالمشهور من مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عدم الوجوب مطلقا ، وفي قول : يجب مطلقا ، وفيمن يتكرر منه دخولها خلاف ، وهو أولى بعدم الوجوب . والمشهور عن الأئمة الثلاثة : الوجوب . وفي رواية عن كل منهم لا يجب ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
والحسن ،
وأهل الظاهر ، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة ، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات ، وزعم
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر أن أكثر
[ ص: 493 ] الصحابة والتابعين على القول بالوجوب . انتهى كلام
ابن حجر . ونقل
النووي في شرح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض : أن هذا هو قول أكثر العلماء .
وإذا علمت اختلاف العلماء في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم . أما الذين قالوا : إنه لا يجوز
دخول مكة بغير إحرام إلا للمترددين عليها كثيرا كالحطابين ، وذوي الحاجات المتكررة كالمالكية والحنابلة ، ومن وافقهم فقد استدلوا بأدلة :
منها قول بعضهم : إن من نذر دخول
مكة لزمه الإحرام . قالوا : ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول كسائر البلدان .
ومنها : ما رواه
البيهقي في سننه أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=16476أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني ، أنبأ
nindex.php?page=showalam&ids=12586أبو سعيد بن الأعرابي ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15980سعدان بن نصر ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12408إسحاق الأزرق ، عن
عبد الملك ، عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : ما يدخل
مكة أحد من أهلها ، ولا من غير أهلها إلا بإحرام ، ورواه
إسماعيل بن مسلم ، عن
عطاء ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008754عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : فوالله ما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حاجا ، أو معتمرا . انتهى من
البيهقي . وقال
ابن حجر في التلخيص : حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لا يدخل أحد
مكة إلا محرما . رواه
البيهقي من حديثه ، وإسناده جيد ، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي مرفوعا من وجهين ضعيفين ،
nindex.php?page=showalam&ids=12508ولابن أبي شيبة من طريق
طلحة ، عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال : لا يدخل أحد
مكة بغير إحرام إلا الحطابين ، والعمالين ، وأصحاب منافعها . وفيه
طلحة بن عمرو فيه ضعف . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة ، عن
عمرو ، عن
أبي الشعثاء : أنه رأى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يرد من جاوز الميقات غير محرم . ا هـ منه .
ومنها : أن دخول
مكة بغير إحرام مناف للتعظيم اللازم لها .
وأما الذين قالوا بجواز دخول
مكة بلا إحرام لمن لم يرد نسكا ، فاحتجوا بأدلة :
منها : ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه ، قال : باب دخول
الحرم ومكة بغير إحرام . ودخل
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة ، ولم يذكر الحطابين وغيرهم . ثم ساق بسنده حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المتفق عليه المذكور سابقا وفيه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008755هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة " الحديث ، ومراد
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله أن مفهوم قوله : ممن أراد الحج والعمرة أن من لم يرد الحج ، والعمرة لا إحرام عليه ، ولو دخل
مكة .
وقال
ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث وحاصله : أنه خص
[ ص: 494 ] الإحرام بمن أراد الحج والعمرة ، واستدل بمفهوم قوله في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ممن أراد الحج والعمرة ، فمفهومه أن المتردد إلى
مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام . انتهى محل الغرض منه ، ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله : حدثنا
عبد الله بن يوسف ، أخبرنا
مالك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك رضي الله عنه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008756أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه " انتهى منه ، فقول
أنس في هذا الحديث الصحيح : دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر دليل على أنه صلى الله عليه وسلم دخل
مكة عام الفتح بغير إحرام ، كما هو واضح ، وحديث
أنس هذا أخرجه
مالك في الموطإ ، وزاد : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما ، وأخرجه أيضا
مسلم في صحيحه باللفظ الذي ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في باب جواز دخول
مكة بغير إحرام .
وقال
مسلم رحمه الله في صحيحه أيضا : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17342يحيى بن يحيى التميمي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16818وقتيبة بن سعيد الثقفي ، قال
يحيى : أخبرنا ، وقال
قتيبة : حدثنا
معاوية بن عمار الدهني ، عن
أبي الزبير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله الأنصاري : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008757أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة " وقال قتيبة : " دخل يوم فتح مكة ، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام " وفي رواية
قتيبة قال : حدثنا
أبو الزبير ، عن
جابر ، وفي رواية أخرى عند
مسلم ، عن
جابر أيضا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008758أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة ، وعليه عمامة سوداء " ، وفي رواية عند
مسلم من طريق
جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008759أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس ، وعليه عمامة سوداء " ، وفي لفظ
لمسلم ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008760عن جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وعليه عمامة سوداء ، قد أرخى طرفيها بين كتفيه . ولم يقل
أبو بكر : على المنبر . انتهى منه .
فإن قيل : في بعض هذه الأحاديث الصحيحة : أنه دخل
مكة ، وعلى رأسه المغفر ، وفي بعضها : أنه دخل وعليه عمامة سوداء .
فالجواب : أن العلماء جمعوا بين الروايتين . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض : وجه الجمع بينهما أن أول دخوله كان على رأسه المغفر ، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر ، بدليل قوله : خطب الناس ، وعليه عمامة سوداء ; لأن الخطبة إنما كانت عند باب
الكعبة بعد تمام فتح
مكة ، وجمع بعض أهل العلم بينهما بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر وكانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد ، فأراد
أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئا للحرب ، وأراد
جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم انتهى محل
[ ص: 495 ] الغرض منه من فتح الباري . وقال
ابن حجر في الفتح في قول
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : ( ودخل
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ) وصله
مالك رحمه الله في الموطإ عن
نافع قال : أقبل
عبد الله بن عمر من
مكة ، حتى إذا كان
بقديد - يعني بضم القاف - جاءه خبر من
المدينة ، فرجع ، فدخل
مكة بغير إحرام ا هـ منه ، وقد ذكر
مالك في الموطإ في جامع الحج بلفظ : جاءه خبر من
المدينة يدل عن الفتنة ، وباقي اللفظ كما ذكره
ابن حجر .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا : أن من أراد دخول
مكة حرسها الله لغرض غير الحج والعمرة أنه لا يجب عليه الإحرام ، ولو أحرم كان خيرا له ; لأن أدلة هذا القول أقوى وأظهر فحديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المتفق عليه : خص فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام بمن أراد النسك . وظاهره أن من لم يرد نسكا فلا إحرام عليه . وقد رأيت الروايات الصحيحة بدخول النبي صلى الله عليه وسلم
مكة يوم الفتح غير محرم ، ودخول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر غير محرم والعلم عند الله تعالى .
وأما قول بعض أهل العلم من المالكية وغيرهم أن دخول
مكة بغير إحرام من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، فهو لا تنهض به حجة ; لأن المقرر في الأصول وعلم الحديث أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يختص حكمه به إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله ، وأفعاله ، وتقريره كما هو معلوم .