الفرع التاسع : في حكم
تأخير الإحرام عن الميقات ، وتقديمه عليه قد قدمنا أنه لا يجوز تأخير الإحرام عن الميقات ممن يريد حجا ، أو عمرة ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ، وقد قدمنا دليله ، وأما ما رواه
مالك رحمه الله في الموطإ عن
نافع : أن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أهل من
الفرع . ومعلوم أن
الفرع وراء ميقات أهل
المدينة الذي هو
ذو الحليفة ، فهو محمول عند أهل العلم كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر وغيره ، على أنه وصل
الفرع وهو لا يريد النسك فطرأت عليه نية النسك
بالفرع ، فأهل منه ، وهذا متعين ; لأن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن المعلوم أنه لا يخالف ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما الإحرام من موضع فوق الميقات ، فأكثر أهل العلم على جوازه وحكى غير واحد عليه الاتفاق .
واختلفوا في الأفضل من الأمرين وهما الإحرام من الميقات ، أو الإحرام من بلده إن كان أبعد من الميقات ؟ قال
النووي في شرح المهذب : أجمع من يعتد به من السلف
[ ص: 496 ] والخلف من الصحابة ، فمن بعدهم ، على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه . وحكى
العبدري وغيره عن
داود أنه قال : لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات ، وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه ، ويلزمه أن يرجع ، ويحرم من الميقات . وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله . انتهى كلام
النووي .
وحجة من قال : إن الإحرام من الميقات أفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته وعمرته من الميقات الذي هو
ذو الحليفة ، وهذا مجمع عليه من أهل العلم ، وأحرم معه في حجه وعمرته أصحابه كلهم من الميقات ، وكذلك كان يفعل بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم من الصحابة والتابعين ، وجماهير العلماء ، وأهل الفضل فترك النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام في مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وإحرامه من الميقات دليل واضح لا شك فيه أن السنة هي الإحرام من الميقات ، لا مما فوقه ، واحتج من قال : يكون الإحرام مما فوق الميقات أفضل بما رواه
أبو داود في سننه : حدثنا
أحمد بن صالح ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12523ابن أبي فديك ، عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس ، عن
يحيى بن أبي سفيان الأخنسي ، عن جدته
حكيمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008761من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، أو وجبت له الجنة " شك
عبد الله أيتهما قال : قال
أبو داود : يرحم الله
وكيعا أحرم من
بيت المقدس ، يعني إلى
مكة . انتهى من سنن
أبي داود . واحتج أهل هذا القول أيضا بتفسير
عمر ،
وعلي رضي الله عنهما لقوله :
وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، واحتجوا أيضا بما رواه
مالك في الموطإ عن الثقة عنده أن
عبد الله بن عمر : أهل من
إيلياء . وهي
بيت المقدس ، ورد المخالفون استدلال هؤلاء بأن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة : ليس بالقوي .
قال
النووي في شرح المهذب : وأما حديث
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة ، فرواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
والبيهقي ، وآخرون وإسناده ليس بالقوي ، وبأن تفسير
علي ،
وعمر رضي الله عنهما للآية ، وفعل
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر كلاهما مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله في حجته تفسير لآيات الحج . وقد قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444خذوا عني مناسككم " ، وإحرامه من الميقات مجمع عليه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإحرام من الميقات ، فلو كان الإحرام قبله فيه فضل لفعله صلى الله عليه وسلم ، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 497 ] وقال
النووي في شرح المهذب ، بعد أن بين أن الإحرام من الميقات أفضل من غيره ما نصه : فإن قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات لبيان جوازه .
فالجواب من أوجه :
أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008762مهل أهل المدينة من ذي الحليفة " .
الثاني : أن بيان الجواز فيما يتكرر فعله ، ففعله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات يسيرة على أقل ما يجزئ بيانا للجواز ويداوم في عموم الأحوال على أكمل الهيئات ، كما توضأ مرة في بعض الأحوال وداوم على الثلاث ، ونظائر هذا كثيرة ، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من
المدينة ، وإنما أحرم بالحج وعمرة
الحديبية من
ذي الحليفة .
الثالث : أن بيان الجواز إنما يكون في شيء اشتهر أكمل أحواله بحيث يخاف أن يظن وجوبه ، ولم يوجد ذلك هنا ، وهذا كله إنما يحتاج إليه على تقدير دليل صريح صحيح في مقابلته ولم يوجد ذلك ، فإن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة قد سبق أن إسناده ليس بالقوي فيجاب عنه بأربعة أجوبة :
الأول : أن إسناده ليس بقوي .
الثاني : أن فيه بيان فضيلة الإحرام من فوق الميقات ، وليس فيه أنه أفضل من الميقات ، ولا خلاف أن الإحرام من فوق الميقات فيه فضيلة ، وإنما الخلاف أيهما أفضل .
فإن قيل : هذا الجواب يبطل فائدة تخصيص
المسجد الأقصى .
فالجواب : أن فيه زيادة هي تبيين قدر الفضيلة فيه .
والثالث : أن هذا معارض لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في حجته ، وعمرته ، فكان فعله المتكرر أفضل .
الرابع : أن هذه الفضيلة جاءت في
المسجد الأقصى ; لأن له مزايا عديدة معروفة ، ولا يوجد ذلك في غيره ، فلا يلحق به والله تعالى أعلم . انتهى كلام
النووي . ولا شك : أن
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الأقصى بدليل الحديث المتفق عليه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008763صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ; إلا المسجد الحرام " ، ولا خلاف بين أهل العلم في دخول
المسجد الأقصى في هذا العموم ، وتفضيل
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عليه في الجملة ، فلو كان فضل المكان سببا للإحرام فيه قبل الميقات لأحرم النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده ; لأنه لا يفعل إلا ما هو الأفضل والأكمل صلوات الله وسلامه عليه ، ولا يخفى أن
[ ص: 498 ] الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل ، وأكمل من غيره .