صفحة جزء
فصل فيما تتعدد فيه الفدية ونحوها وما لا يتعدد فيه ذلك وأقوال العلماء فيه

اعلم أولا : أن هذا الفصل يدخل في مسألة كبيرة ، يذكرها علماء الأصول في مبحث الأمر ، وهي : هل الأمر يقتضي التكرار أو لا ؟ وهي ذات واسطة وطرفين ، طرف يتعدد فيه اللازم بلا خلاف ، وطرف لا يتعدد فيه ، بلا خلاف ، وواسطة : هي محل الخلاف ، وهذا البحث أعم مما نحن بصدده ، ولكن إذا تكلمنا عليه على سبيل العموم ، رجعنا إلى [ ص: 102 ] مسألتنا ، فذكرنا فيها كلام أهل العلم ، وأدلتهم ، وناقشناها .

والمسألة المذكورة : هي إذا تعددت الأسباب ، واتحد موجبها بصيغة اسم المفعول ، هل يتعدد الموجب نظرا لتعدد أسبابه أو لا يتعدد نظرا لاتحاده في نفسه ؟ وأشار إلى هذه المسألة في الجملة الشيخ ميارة في " التكميل " بقوله :


إن يتعدد سبب والموجب متحد كفى لهن موجب     كناقض سهو ولوغ
والفدا حكاية حد تيمم بدا     وذا الكثير والتعدد ورد
بخلف أو وفق بنص معتمد



فقوله : الموجب في الموضعين بصيغة اسم المفعول . وقوله كناقض يعني : أن نواقض الوضوء إن تعددت كمن بال مرات . أو بال ونام وقبل ، فإنه يكفي لجميعها وضوء واحد . وكذلك الجنابة ، إن تعددت أسبابها بوطء مرات ، وإنزال بلذة ، واحتلام ، وانقطاع حيض ، فإنه يكفي لجميع ذلك غسل واحد .

وقوله : سهو يعني : أن من سها في صلاته مرات متعددة ، يكفيه لجميعها سجود سهو واحد .

وقوله : ولوغ يعني : أنه إذا تعدد ولوغ الكلب في الإناء بأن ولغ فيه مرات متعددة أو دلفت فيه كلاب متعددة ، فإنه يكفي لجميع ذلك غسله سبع مرات على نحو ما في الحديث ، ولا يتعدد الغسل بتعدد الولوغ .

وقوله : والفدا يعني : أن من تكرر منه موجب الفدية ، كمن لبس ثوبا مخيطا مطيبا تكفيه فدية واحدة .

قوله : حكاية يعني : أن من سمع أذان جماعة من المؤذنين في وقت واحد ، يكفيه حكاية أذان واحد ، ولا تتعدد حكاية الأذان لتعدد المؤذنين .

وقوله : حد يعني : أن من زنى مرات متعددة قبل أن يقام عليه الحد يكفي حده حدا واحدا ، ولا يتعدد الحد بتعدد الزنى مثلا . أما إذا أقيم عليه الحد ، ثم زنى بعد إقامة الحد ، فإنه يقام عليه الحد لزناه الواقع بعد إقامة الحد .

وقوله : تيمم يعني : أن الجنب مثلا الذي حكمه التيمم ، إذا أراد حمل المصحف وقراءة القرآن فيه يكفيه تيمم واحد ، ولا يلزمه أن يتيمم لكل واحد منهما .

[ ص: 103 ] وقوله : وذا الكثير يعني : أن الكثير في فروع هذه المسألة عدم تعدد الموجب الذي تعددت أسبابه .

وقوله : والتعدد ورد بخلف ، أو وفق يعني : أن تعدد الموجب ، لتعدد أسبابه وارد في الشرع ، وتارة يكون مجمعا على تعدده ، وتارة يكون مختلفا فيه ، فقوله : أو وفق يعني : بالوفق الاتفاق ، ومراده به الإجماع . وقد نظم العلوي الشنقيطي في " نشر البنود شرح مراقي السعود " ما يتعدد بتعدد سببه إجماعا ، وما يتعدد بخلاف في شرحه ; لقوله في " المراقي " :


أو التكرر إذا ما علقا     بشرط أو بصفة تحققا



فقال - رحمه الله - :


وما تعدد بوفق غره     أو دية ومهر غصب الحره
عقيقة ومهر من لم تعلم     والثلث من بعد الخروج فاعلم
والخلف في صاع المصراة وفي     كفارة الظهار من نسى يفي
وهدي من نذر نحر ولده     غسل إن الولغ يرى بعدده
حكاية المؤذنين وسجود     تلاوة وبعد تكفير يعود
قذف جماعة وثلث قبل أن     يخرج ثلثا قاله من قد فطن
كفارة اليمين بالله علا     لقصد تأسيس من الذي ائتلى



وحاصل كلامه في نظمه : أن الذي يتعدد إجماعا خمس مسائل :

الأولى : أن من ضرب بطن حامل ، فأسقطت جنينين مثلا ، يتعدد الواجب فيهما من غرة أو دية على ما مر تفصيله في سورة " بني إسرائيل " ، وهذا مراده بقوله : وما تعدد بوفق غرة أو دية .

المسألة الثانية : أن من غصب حرة فزنى بها مرات متعددة ، يتعدد عليه مهرها بتعدد الزنى بها .

والثالثة : أن من ولد له توأمان لزمته عقيقتان .

الرابعة : أن من وطئت مرات وهي غير عالمة كالنائمة ، فإنه يتعدد لها المهر بتعدد الوطء .

الخامسة : أن من نذر ثلث ماله فأخرجه ثم نذر بعد ذلك ثلثه ، فإنه يلزمه ، ومراده [ ص: 104 ] بهذا واضح من النظم ، وقد يقال : إن بعض المذكورات ، لا يخلو من خلاف .

أما ما ذكر تعدده على خلاف فيه ، فهو عشر مسائل :

الأولى : صاع المصراة يعني : صاع التمر الذي يرده مع المصراة إذا حلبها ، هل يتعدد بتعدد الشياه المصراة ، أو يكفي عن جميعها صاع واحد ، والأظهر في هذه التعدد .

الثانية : إذا ظاهر من زوجاته الأربع ، هل تتعدد كفارة الظهار بتعددهن ، أو تكفي كفارة واحدة ؟

والثالثة : إذا تكرر منه نذر ذبح ولده ، بأن نذر أنه يذبح اثنين ، أو ثلاثة من ولده ، وقلنا : يلزمه الهدي ، هل يتكرر بتكرر الأولاد المنذور ذبحهم ، أو يكفي هدي واحد ؟

والرابعة : تعدد ولوغ الكلاب في الإناء ، هل يتعدد الغسل سبعا بتعدد الولوغ ، أو يكفي غسله سبعا مرة واحدة ؟

والخامسة : حكاية أذان المؤذنين .

والسادسة : سجود التلاوة ، إذا كرر آية السجود مرارا في وقت واحد ، هل يكفي سجود واحد أو لا ؟

والسابعة : إذا جامع في نهار رمضان ، ثم كفر من حينه ، ثم جامع مرة أخرى في نفس اليوم ، هل تتعدد الكفارة أو لا ؟

والثامنة : إذا قذف جماعة ، هل يتعدد عليه حد القذف بتعددهم ، أو يكفي حد واحد ؟

والتاسعة : إذا نذر ثلث ماله ، ثم نذر ثلثا آخر قبل أن يخرج الثلث الأول هل يلزمه النذر في الثلثين ، أو يكفي واحد ؟

والعاشرة : إذا حلف بالله مرات متعددة ، وقصد بكل يمين التأسيس لا التأكيد ، هل تتعدد الكفارة بتعدد الأيمان ، أو تكفي كفارة واحدة ، هذا هو حاصل مراده بالأبيات .

ولا شك أن المسائل المتفق على تعددها والمختلف فيها أكثر مما ذكر بكثير ، فمن المسائل المتفق على التعدد فيها ، ولم يذكرها من صاد ظبيين مثلا ، وهو محرم فإنه يتكرر عليه الجزاء إجماعا . وما روي عن أحمد من أنه يكفي جزاء واحد ، لا يصح ، كما قاله صاحب " المغني " ; لأنه مخالف لصريح قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ; لأن الواحد لا يكون مثلا للاثنين .

[ ص: 105 ] والحاصل : أن هذه المسألة ، إنما تعرف فروعها بالتتبع ، فقد يكفي موجب واحد مع تعدد الأسباب إجماعا ، كتعدد نواقض الوضوء ، وأسباب الجنابة ، وتعدد سبب الحد كالزنى ، وقد يتعدد إجماعا كالمسائل المذكورة آنفا ، وقد يختلف في تعدده ، وعدم تعدده وهذا هو الغالب في فروع هذه المسألة ، خلافا لما قاله الشيخ ميارة في " التكميل " .

فإذا علمت هذه المسألة في الجملة وعلمت أنها عند الأصوليين من المسائل المبنية على مسألة : الأمر هل يقتضي التكرار أو لا يقتضيه ؟ فهذه أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في المسألة التي نحن بصددها ، وهي ما تعدد فيه الفدية ونحوها ، بتعدد أسبابها ، وما لا تتعدد فيه .

واعلم أولا : أن تعدد اللازم في الجماع بتعدد الجماع ، وعدم تعدده قد قدمنا أقوال أهل العلم فيه ، واستوفينا الكلام عليه .

أما مذهب مالك - رحمه الله - في هذه المسألة ففيه تفصيل . حاصله : أن الجماع لا يتعدد الهدي اللازم فيه بتعدده ، سواء جامع بعد إخراج الهدي عن الجماع الأول أو قبله . وأما غير الجماع من محظورات الإحرام كلبس المخيط والتطيب ، وحلق الرأس ، وقلم الأظافر ، ونحو ذلك ، فتارة تكفي عنده في ذلك فدية واحدة ، عن الجميع ، وتارة تتعدد بتعدد أسبابها .

أما موجبات عدم تعدد الفدية ، فهي في مذهب مالك ثلاثة .

الأولى : أن يكون فعل أسباب الفدية في وقت واحد أو بعضها بالقرب من بعض ، فإن لبس وتطيب وحلق في وقت واحد ، فعليه فدية واحدة ، وكذلك إن فعل بعضها قريبا من بعض ، والقول الذي خرجه اللخمي بالتعدد في ذلك ضعيف ، لا يعول عليه .

الثانية : أن ينوي فعل جميعها ، بأن ينوي اللبس والتطيب والحلق فتلزمه فدية واحدة ، ولو كان بعضها بعد بعض غير قريب منه .

الثالثة : أن يكون فعل محظورات الإحرام ظانا أنها مباحة ، كالذي يطوف على غير وضوء في عمرته ، ثم يسعى ، ويحل ويفعل محظورات متعددة ، وكالذي يرفض إحرامه ظانا أن الإحرام يصح رفضه ، فيفعل بعد رفضه محظورات متعددة ، وكمن أفسد إحرامه بالوطء ، ثم فعل موجبات الفدية ظانا أن الإحرام تسقط حرمته بالفساد ، وجعل بعض المالكية من صور ظن الإباحة من ظن أن الإحرام لا يمنعه من محرماته أو لا يمنعه من [ ص: 106 ] بعضها . وأما ما يوجب تعدد الفدية عند المالكية ، فهو أن يفعل محظورات الإحرام مترتبة بعضها بعد بعض ، غير قريب منه ، فإنه تلزمه بكل محظور فدية ، ولو كثر ذلك سواء كانت المحظورات من نوع واحد ، كمن كرر التطيب ، أو كرر اللبس ، أو كرر الحلق في أوقات غير متقاربة ، والظاهر أن القرب بحسب العرف ، أو من أنواع كمن لبس مخيطا ، ثم تطيب ، ثم حلق ، فإن الفدية تتعدد في جميع ذلك ، إن لم يكن بعضه قريبا من بعض ، أو في وقت واحد ، فإن احتاج إلى لبس قميص ، ثم احتاج بعد ذلك إلى لبس سراويل ، ففدية واحدة عندهم ; لأن محل السراويل كان يستره القميص قبل لبس السراويل . أما إن احتاج إلى السراويل أولا ، ثم احتاج بعد ذلك إلى القميص ، ففديتان ; لأن القميص يستر من أعلى بدنه شيئا ما كان يستره السراويل .

هذا هو حاصل مذهب مالك في تعدد الفدية وعدمه في تعدد محظورات الإحرام .

وأما مذهب أبي حنيفة : فهو أنه إن تكرر منه موجب الفدية من نوع واحد في مجلس واحد ، فعليه كفارة واحدة ، وهي فدية الأذى إن كان ذلك لعذر ، ودم إن كان لغير عذر ، وإن فعل ذلك في مجالس متعددة تعددت الكفارة . وقال محمد : لا تتعدد إلا إذا كفر عن الأول قبل فعل الثاني ، فلو لبس قميصا وقباء وسراويل وخفين يوما كاملا لزمه دم واحد أو فدية واحدة ; لأنها من جنس واحد فصارت كجناية واحدة ، وكذلك لو دام على لبس ذلك أياما ، وكذا لو كان ينزعه بالليل ، ويلبسه بالنهار ، لا يجب عليه إلا دم واحد ، إلا إذا نزعه على عدم الترك ، ثم لبسه بعد ذلك ، فإنه يجب عليه دم آخر ; لأن اللبس الأول انفصل عن الثاني بالعزم على الترك ، وكذا لو لبس قميصا للضرورة ولبس خفين من غير ضرورة فعليه دم وفدية ; لأن السبب اختلف فلا يمكن التداخل ، وكذلك لو طيب جميع أعضائه ، فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد ، إن كان لغير عذر . وفدية واحدة ، إن كان ذلك لعذر ، وإن كان تطييب أعضائه في مجالس تعددت الفدية أو الدم بتعدد الأعضاء التي طيبها في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، سواء ذبح للأول أو لم يذبح . وقال محمد : إن ذبح للأول فكذلك ، وإن لم يذبح فعليه دم واحد ، وإن اختلفت أسباب الفدية ، كمن تطيب ، ولبس مخيطا أو تطيب ، وغطى رأسه يوما كاملا مثلا ، تعددت الفدية ، أو الدم سواء كان ذلك في مجلس واحد ، أو في مجلسين . وقد قدمنا أنه لا خلاف في تعدد جزاء الصيد بتعدد الصيد . وما روي عن أحمد مما يخالف ذلك ، لم يصح لمخالفته صريح القرآن العظيم .

[ ص: 107 ] هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة في المسألة .

وأما مذهب أحمد في هذه المسألة فهو : أنه إن فعل محظورات متعددة من جنس واحد ، كما لو حلق مرة بعد مرة ، أو لبس مرة بعد مرة ، أو تطيب مرة بعد مرة : فعليه فدية واحدة ، ولا تتعدد الفدية بتعدد الأسباب ، التي هي من نوع واحد ، سواء كانت في مجلس واحد ، أو مجالس متفرقة ، ومحل هذه ما لم يكفر عن الفعل الأول ، قبل الفعل الثاني . فلو تطيب مثلا ، ثم افتدى ثم تطيب بعد الفدية لزمته فدية أخرى ; لتطيبه بعد أن افتدى .

وعن أحمد : أنه إن كرر ذلك لأسباب مختلفة ، مثل أن لبس للبرد ، ثم لبس للحر ، ثم لبس للمرض فكفارات ، وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة . وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحدة .

قلت له : فإن اعتل فلبس جبة ، ثم برئ ، ثم اعتل فلبس جبة ، قال : هذا الآن عليه كفارتان قاله في " المغني " ، ثم قال : وعن الشافعي كقولنا ، وعنه لا يتداخل . وقال مالك : تتداخل كفارة الوطء دون غيره ، وقال أبو حنيفة : إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة ، وإن كان في مجالس فكفارات ; لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد ، بخلاف غيره ، ولنا أن ما يتداخل إذا كان بعضه عقب بعض ، يجب أن يتداخل ، وإن تفرق كالحدود وكفارة الأيمان ، ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس : فدية واحدة ، ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات ، والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح ، فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئا بعد شيء . انتهى من " المغني " .

وأما إن كانت المحظورات من أجناس مختلفة ، كأن حلق ، ولبس ، وتطيب ، ووطئ فعليه لكل واحد منها فدية ، سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا . قال في " المغني " : وهذا مذهب الشافعي .

وعن أحمد أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة ، وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد ، فعليه لكل واحد دم ، وهو قول إسحاق .

وقال عطاء وعمرو بن دينار : إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما ، ففعل ذلك ، فليس عليه إلا فدية .

وقال الحسن : إن لبس القميص ، وتعمم ، وتطيب فعل ذلك جميعا : فليس عليه إلا كفارة واحدة ، ونحو ذلك عن مالك .

[ ص: 108 ] ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس ، فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة ، والأيمان المختلفة ، وعكسه ما إذا كان من جنس واحد . انتهى من " المغني " .

وهذا هو حاصل مذهب أحمد في المسألة .

وأما مذهب الشافعي في هذه المسألة : فهو أن المحظورات تنقسم عند الشافعية إلى استهلاك ، كالحلق ، والقلم ، والصيد وإلى استمتاع ، وترفه كالطيب ، واللباس ، ومقدمات الجماع فإذا فعل محظورين ، فله ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون أحدهما استهلاكا ، والآخر استمتاعا ، فينظر : إن لم يستند إلى سبب واحد ، كالحلق ، ولبس القميص تعددت الفدية كالحدود المختلفة ، وإن استند إلى سبب واحد ، كمن أصابت رأسه شجة ، واحتاج إلى حلق جوانبها ، وسترها بضماد ، وفيه طيب ، ففي تعدد الفدية وجهان ، والصحيح منهما تعددها .

الحال الثاني : أن يكون استهلاكا وهو على ثلاثة أضرب :

الأول : أن يكون مما يقابل بمثله ، وهو الصيد . فتتعدد الفدية بتعدده ، بلا خلاف عندهم ، سواء فدى عن الأول أم لا ، وسواء اتحد الزمان والمكان ، أو اختلفا كضمان المتلفات .

الضرب الثاني : أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله ، دون الآخر كالصيد والحلق فتتعدد بلا خلاف . الضرب الثالث : أن لا يقابل واحد منهما بمثله ، فينظر إن اختلف نوعهما كحلق وطيب أو لباس وحلق ، تعددت الفدية ، سواء فرق بينهما أو والى في مكان أو مكانين بفعلين أم بفعل واحد ، وإن لبس ثوبا مطيبا فوجهان عندهم ، الصحيح المنصوص منهما : أن عليه فدية واحدة ، والثاني : عليه فديتان ، وإن اتحد النوع . فإن كرر الحلق ، وكان ذلك في وقت واحد - لزمته فدية واحدة ، كمن يحلق رأسه شيئا بعد شيء في وقت واحد ، ولو طال الزمان ، وهو في أثناء الحلق ، فهو كما لو حلف لا يأكل في اليوم إلا مرة واحدة ، فوضع الطعام ، وجعل يأكل لقمة لقمة من بكرة إلى العصر ، فإنه لا يحنث عندهم .

وأما إن كان الحلق في أمكنة متعددة أو في مكان واحد في أوقات متفرقة ففيه عندهم طريقان . أصحهما : تتعدد الفدية فتفرد كل مرة بحكمها ، فإن كان حلق في كل مرة ثلاث شعرات فصاعدا ، وجب لكل مرة فدية ، وإن كانت شعرة أو شعرتين ، ففيها الأقوال السابقة [ ص: 109 ] الأربعة : وهي أنه قيل في الشعرة الواحدة مد . وقيل : درهم . وقيل : ثلث دم . وقيل : دم كامل وحكم الشعرتين معروف من هذا كما تقدم إيضاحه .

الطريق الثاني : أن في المسألة قولين : بالتعدد ، وعدمه ، وعدم التعدد : هو القديم ، والتعدد : هو الجديد . وإن حلق عندهم ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة أو ثلاثة أزمنة متفرقة ، ففي ذلك عندهم طريقان ، أصحهما ، أنه يفرد كل شعرة بحكمها ، وفيها الأقوال الأربعة الماضية .

والطريق الثاني : هو تفريع ذلك على القول ، بالتداخل وعدمه . فإن قلنا بالتداخل : لزمته فدية كاملة ; لأنه كأنه قطع الشعرات الثلاث في وقت واحد ، وإن قلنا : بعدمه ، وهو الصحيح عندهم ، فلكل شعرة حكمها ، كما تقدم في الطريق الصحيح عندهم . ولو أخذ ثلاث شعرات في وقت واحد من ثلاثة مواضع من بدنه . ففيه عندهم طريقان :

أصحهما : لزوم الفدية ، كما لو أخذها من موضع واحد .

والطريق الثاني : فيه وجهان أحدهما : هذا الذي ذكرناه آنفا .

والثاني : أنه كما لو أزالها في أزمنة متفرقة ، أو أمكنة متفرقة ، فيجري على الخلاف في ذلك وقد قدمنا أن حكم الأظفار عندهم كحكم الشعر .

الحال الثالث : أن يكون استمتاعا ، فإن اتحد النوع بأن تطيب بأنواع من الطيب أو لبس أنواعا من الثياب كعمامة وقميص وسراويل ، وخف أو استعمل نوعا واحدا مرات ، فإن فعل ذلك متواليا من غير أن يتخلله تكفير عن الأول ففدية واحدة تكفي للجميع ، وإن تخلله تكفير وجبت الفدية للثاني أيضا ، وإن فعل ذلك في مكانين ، أو زمانين متفرقين فإن تخللهما تكفير : وجبت الفدية للثاني أيضا ، وإن لم يتخللهما تكفير فقولان ، الأصح عندهم منهما ، وهو الجديد : تعدد الفدية ، والقديم : تتداخل ، ولا تتعدد وإن اختلف النوع ، بأن لبس وتطيب في مجلس واحد ، قبل أن يكفر عن الأول منهما أو فعلهما معا ، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عندهم .

أصحها : تعدد الفدية لاختلاف نوع السبب .

الثاني : تجب فدية واحدة ; لأنهما استمتاع ، فيتداخلان ، لاتحاد الجنس .

الثالث : التفصيل ، فإن اتحد سببهما بأن أصابته شجة ، واحتاج في مداواتها إلى طيب وسترها . لزمته فدية واحدة ، وإن لم يتحد السبب : ففديتان ، وهذا كله في غير [ ص: 110 ] الجماع ، وقد قدمنا حكم تعدد الجماع ، وفيه للشافعية خمسة أقوال :

أصحها : تجب بالجماع الأول : بدنة ، وبالثاني : شاة .

والثاني : تجب بكل جماع بدنة .

الثالث : تكفي بدنة واحدة عن الجميع .

الرابع : إن كفر عن الأول ، قبل الجماع الثاني وجبت الكفارة للثاني : وهي شاة في الأصح ، وبدنة في القول الآخر ، وإن لم يكن كفر عن الأول كفته بدنة عنهما .

والخامس : إن طال الزمان بين الجماعين أو اختلف المجلس : وجبت كفارة أخرى للثاني ، وفيها القولان . وإلا فكفارة واحدة ، وإن وطئ مرة ثالثة ورابعة ، أو أكثر ففيه الأقوال المذكورة ، الأظهر : تجب للأول بدنة ، ولكل جماع بعد ذلك شاة .

والثاني : تجب بكل جماع بدنة إلى آخر الأقوال المذكورة آنفا . هذا هو حاصل مذهب الشافعي في المسألة .

ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الحج في الكلام على آية الحج هذه خوف الإطالة المملة .

تنبيهان :

الأول : اعلم أن مسألة الإحصار والفوات وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " البقرة " ، ومسألة الصيد وجزائه في الإحرام ، أو أحد الحرمين ، وأشجار الحرمين ، ونباتهما ونحو ذلك وصيد وج - قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " المائدة " ، وأحكام الهدي سيأتي تفصيلها إن شاء الله في الآيات الدالة عليها من سورة " الحج " هذه .

التنبيه الثاني : اعلم أن جميع ما ذكرنا في هذا الفصل من تعدد الفدية ، وعدم تعددها ، إذا تعددت أسبابها لا نص فيه من كتاب ولا سنة فيما نعلم ، واختلاف أهل العلم فيه كما ذكرنا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط . والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية