فإن قيل :
فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يتعين به الوجوب ; لإمكان أن يكون سنة لا فرضا ; لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيا ، فلا عموم له ، ولذلك كانت أفعال هيئات صلاة الخوف كلها جائزة ، ولم ينسخ الأخير منها الأول ، وإذا فلا مانع من أن يكون هو ذبح يوم النحر ، مع جواز الذبح قبله .
فالجواب من وجهين ، الأول : هو ما تقرر في الأصول ، من أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانا لنص فهو محمول على الوجوب ، إن كان الفعل المبين واجبا كما أطبق عليه الأصوليون . وقد قدمنا إيضاحه فقطعه السارق من الكوع مبينا به المراد من اليد في قوله :
فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، يقتضي الوجوب ، فلا يجوز لأحد القطع من غير الكوع ، وأفعاله في جميع مناسك الحج مبينة للآيات الدالة على الحج ، ومن ذلك الذبائح ، وأوقاتها ; لأنها من جملة المناسك المذكورة في القرآن المبينة بالسنة ; ولذا ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008644لتأخذوا عني مناسككم " ، وإذا يجب الاقتداء به في فعله في نوعه وزمانه ، ومكانه ما لم يكن هنالك قول منه أعم من الفعل كبيانه أن عرفة كلها موقف ، وأن
مزدلفة كلها موقف ، وأن
منى كلها منحر ، ونحو ذلك ، فلا يختص الحكم بنفس محل موقفه أو نحره .
قال صاحب " جمع الجوامع " ، عاطفا على ما تعرف به جهة فعله - صلى الله عليه وسلم - من وجوب أو
[ ص: 144 ] ندب ما نصه : ووقوعه بيانا . . . إلخ . يعني أن وقوع الفعل بيانا لنص مجمل إن كان مدلول النص واجبا ، فالفعل المبين به ذلك النص واجب بلا خلاف ، وإن كان مندوبا فمندوب . سواء كان الفعل المبين للنص دل على كونه بيانا قرينة أو قولا .
قال شارحه صاحب " الضياء اللامع " ، ما نصه : الثاني : أن يكون فعله بيانا لمجمل إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع ، فإنه بيان لقوله تعالى :
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وإما بقول مثل قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007269صلوا كما رأيتموني أصلي " ، فإن الصلاة فرضت على الجملة ، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله ، وأخبر بقوله أن ذلك الفعل بيان ، وكذا قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444خذوا عني مناسككم " ، وحكم هذا القسم وجوب الاتباع . انتهى محل الغرض منه ، وهو واضح فيما ذكرنا ولا أعلم فيه خلافا فجميع أفعال الحج ، والصلاة التي بين بها - صلى الله عليه وسلم - آيات الصلاة والحج يجب حمل كل شيء منها ، على الوجوب إلا ما أخرجه دليل خاص يجب الرجوع إليه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب في مختصره الأصولي : مسألة فعله - صلى الله عليه وسلم - ما وضح فيه أمر الجبلة ، كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، أو تخصيصه ، كالضحى ، والوتر ، والتهجد ، والمشاورة ، والتخيير ، والوصال والزيادة على أربع فواضح ، وما سواهما إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة مثل : صلوا ، وخذوا ، وكالقطع من الكوع والغسل إلى المرافق ، اعتبر اتفاقا . انتهى محل الغرض منه . ومعنى قوله : اعتبر اتفاقا : أنه إن كان المبين باسم المفعول واجبا ، فالفعل المبين باسم الفاعل واجب ; لأن المبين بحسب المبين ، وقال شارحه العضد : فإن عرف أنه بيان لنص على جهته من الوجوب ، والندب ، والإباحة اعتبر على جهة المبين من كونه خاصا وعاما اتفاقا ، ومعرفة كونه بيانا إما بقول ، وإما بقرينة ، فالقول نحو : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008444خذوا عني مناسككم " ، و "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007269صلوا كما رأيتموني أصلي " ، والقرينة مثل : أن يقع الفعل بعد إجمال ، كقطع يد السارق من الكوع ، دون المرفق والعضد بعد ما نزل قوله :
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، والغسل إلى المرافق ، بإدخال المرافق ، أو إخراجها بعد ما نزلت :
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق [ 5 \ 6 ] انتهى محل الغرض منه ، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب ، يكون واجبا ; لأن البيان به بيان لواجب ، كما هو واضح . وإلى ذلك أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :
من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا
ومحل الشاهد منه قوله : وبالبيان . وقال في شرحه " نشر البنود " في معنى قوله :
[ ص: 145 ] وبالبيان ، فيكون حكمه حكم المبين انتهى منه . وهو واضح - والمبين بصيغة اسم المفعول - في آيات الحج ، وهدي التمتع واجب ; لأن الحج واجب إجماعا ، وهدي التمتع واجب إجماعا ، فالفعل المبين لهما يكون واجبا على ما قررناه ، وعليه عامة أهل الأصول ، إلا ما أخرجه دليل خاص وبه تعلم أن ذبحه - صلى الله عليه وسلم - هديه يوم النحر وهو قارن ، وذبحه عن أزواجه يوم النحر ، وهن متمتعات ، وعن
عائشة وهي قارنة : فعل مبين لنص واجب ، فهو واجب ، ولا تجوز مخالفته في نوع الفعل ، ولا في زمانه ، ولا في مكانه إلا فيما أخرجه دليل خاص ، كغير المكان الذي ذبح فيه من
منى ; لأنه بين أن
منى كلها نحر ، ولم يبين أن الزمن كله وقت نحر ، ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول ، من أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يكن بيانا لمجمل ، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب ، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب ; لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم ، إذ على احتمال الندب والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثما ، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " في مبحث أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بقوله :
وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل
وقال في شرحه لمراقي السعود المسمى نشر البنود : يعني أن ما كان من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - مجهول الصفة - أي مجهول الحكم - فإنه يحمل على الوجوب إلى أن قال : وكونه للوجوب هو الأصح ، وهو الذي ذهب إليه الإمام
مالك ،
والأبهري ،
وابن القصار ، وبعض الشافعية ، وأكثر أصحابنا وبعض الحنفية ، وبعض الحنابلة . انتهى محل الغرض منه .
وقال صاحب " الضياء اللامع " : وبهذا قال
مالك في رواية
أبي الفرج ،
وابن خويز منداد ، وقال به
الأبهري ،
وابن القصار ، وأكثر أصحابنا ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية ، وبعض الحنابلة ، وبعض
المعتزلة . واستدل أهل هذا القول بأدلة :
منها قوله تعالى :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ 33 \ 21 ] ، قالوا : معناه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فله فيه أسوة حسنة ، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة ، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وملزوم الحرام حرام ، ولازم الواجب واجب . وقالوا أيضا : وهو مبالغة في التهديد على عدم الأسوة فتكون الأسوة واجبة ، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله .
ومنها قوله تعالى :
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، قالوا : وما فعله فقد آتاناه ; لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله وتقريره .
[ ص: 146 ] ومنها قوله تعالى :
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، ومن اتباعه التأسي به في فعله ، قالوا : وصيغة الأمر في قوله :
فاتبعوني للوجوب .
ومنها أن
الصحابة لما اختلفوا في وجوب
الغسل من الوطء ، بدون إنزال سألوا
عائشة ، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلا ذلك ، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل من الوطء بدون إنزال على الوجوب .
ومنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008940أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خلع نعليه في الصلاة ، خلعوا نعالهم ، فلما سألهم : لم خلعوا نعالهم ؟ قالوا : رأيناك خلعت نعليك ، فخلعنا نعالنا ، فحملوا مطلق فعله على الوجوب ، فخلعوا لما خلع ، وأقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك قالوا : فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب ، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه أن يخلعوا ، ولكنه أقرهم على خلع نعالهم ، وأخبرهم أن
جبريل أخبره : أن في باطنهما قذرا والقصة في ذلك ثابتة من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند
أحمد ،
وأبي داود ،
والحاكم وغيرهم . وقال
النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : رواه
أبو داود بإسناد صحيح ، ورواه
الحاكم في " المستدرك " . وقال : هو صحيح على شرط
مسلم ، وقال
الشوكاني في " نيل الأوطار " في شرحه لحديث
أبي سعيد المذكور في " المنتقى " بعد أن قال
المجد في " المنتقى " : رواه
أحمد وأبو داود ، انتهى الحديث . أخرجه أيضا
الحاكم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13114وابن خزيمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ، واختلف في وصله وإرساله ورجح
أبو حاتم في العلل الموصول ، ورواه
الحاكم من حديث
أنس ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود إلى آخر كلامه . ومعلوم أن المخالفين القائلين : بأن الفعل الذي لم يكن بيانا لمجمل ، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب ، بل على الندب أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ، ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول ، قالوا : قوله :
وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، أي ما أمركم به بدليل قوله :
وما نهاكم عنه [ 59 \ 7 ] ، فهي في الأمر والنهي لا في مطلق الفعل ، ولا يخفى أن تخصيص : ( وما آتاكم ) ، بالأمر تخصيص لا دليل عليه ، وذكر النهي بعده لا يعينه وقالوا :
إن كنتم تحبون الله فاتبعوني إنما يكون الاتباع واجبا فيما علم أنه واجب ، أما إذا كان فعله مندوبا فالاتباع فيه مندوب ، ولا يتعين أن الفعل واجب على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الوجوب . أما لو كان فعله على سبيل الندب ، وفعلته الأمة على
[ ص: 147 ] سبيل الوجوب ، فلم يتحقق الاتباع بذلك ، قالوا : وكذلك يقال في قوله تعالى :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، فلا تتحقق الأسوة إذا كان هو - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الندب ، وفعلته أمته على سبيل الوجوب ، بل لا بد في الأسوة من علم جهة الفعل ، الذي فيه التأسي ، قالوا : وخلعهم نعالهم لا دليل فيه ; لأنه فعل داخل في نفس الصلاة ، وإنما أخذوه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007269صلوا كما رأيتموني أصلي " ; لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة ، قالوا : وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل ، الذي أخبرتهم به
عائشة ; لأنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008941صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب الغسل من التقاء الختانين ، أو لأنه فعل مبين لقوله :
وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ، والفعل المبين لإجمال النص لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه .
قالوا : والاحتياط في مثل هذا لا يلزم ; لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما ثبت وجوبه أو كان وجوبه هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان ، إن حصل غيم يمنع رؤية الهلال عادة ، أما غير ذلك فلا يلزم فيه الاحتياط ، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان : فلا يجوز
صوم يوم الشك ، ولا يحتاط فيه ; لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل ، إلى آخر أدلتهم ومناقشاتها . فلم نطل بجميعها الكلام ، ولا شك أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله :
فاتبعوني [ 3 \ 31 ] ، وقوله :
وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، وقوله :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع ، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان ، وما سنذكره من غير ذلك ، وهو الوجه الثاني من وجهي الجواب اللذين ذكرنا : وهو أن ذلك الفعل الذي هو ذبح هدي التمتع ، والقران يوم النحر ، هو الذي مشى عليه سلف هذه الأمة من
الصحابة والتابعين . ودلت عليه الأحاديث ولن يصلح آخر هذه الأمة ، إلا ما أصلح أولها ، ومن أوضح الأدلة الثابتة في ذلك الأحاديث المتفق عليها التي لا مطعن فيها بوجه أنه - صلى الله عليه وسلم - ، أمر أصحابه بفسخ حجهم في عمرة ، وأن يحلوا منها الحل كله ، ثم يحرموا بالحج ، وتأسف على أنه لم يفعل مثل فعلهم وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008525لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " ، وفي تلك النصوص الصحيحة : التصريح بأمرهم بفسخ الحج في العمرة ، ومعناه : أنه هو - صلى الله عليه وسلم - يجوز له أن يفسخ الحج في العمرة ، كما أمر أصحابه بذلك . وقد صرح في الأحاديث الصحيحة : بأن الذي منعه من ذلك . أنه ساق الهدي ، فلو كان هدي التمتع يجوز ذبحه بعد
[ ص: 148 ] الإحلال من العمرة لجعل الحج عمرة ، وأحل منها ، ونحر الهدي بعد الإحلال منها . ولكن المانع الذي منعه من ذلك هو عدم جواز النحر في ذلك الوقت . والحلق الذي لا يصح الإحلال دونه معلق على بلوغ الهدي محله ، كما قال :
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت عنه أن محله :
منى يوم النحر . وقد قدمنا في سورة " البقرة " أن القرآن دل في موضعين ، على أن
النحر قبل الحلق .
أحدهما : قوله تعالى :
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . والثاني : قوله تعالى :
ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، وقد قدمنا أنه التسمية عند نحرها تقربا لله ، ثم قال بعد النحر الذي هو معنى الآية :
ثم ليقضوا تفثهم [ 22 \ 29 ] ، ومن قضاء تفثهم : الحلق ، أو التقصير .
وقد ثبت في الصحيح : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008942أنه - صلى الله عليه وسلم - حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك " ، كما قدمناه في سورة " البقرة " مستوفى ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - بين أن من قدم الحلق ، على النحر : لا شيء عليه . ولا خلاف أن كل الواقع من ذلك في حجته ، أنه كان يوم النحر كما هو معروف . وقد دلت آية " الحج " على أن كل هدي له تعلق بالحج ، ويدخل فيه التمتع دخولا أوليا أن وقت ذبحه مخصص بأيام معلومات ، دون غيرها من الأيام ، وذلك في قوله تعالى :
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 27 - 28 ] ; لأن معنى الآية الكريمة : أذن فيهم بالحج ، يأتوك مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام : أي ولأجل أن يتقربوا بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات وهو واضح كما ترى . وقد قدمنا أن هذه الأنعام التي يتقرب بها في هذه الأيام المعلومات ، ويسمى عليها الله عند تذكيتها ، أنها أظهر في الهدايا من الضحايا ; لأن الضحايا لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين ، ليأتوا رجالا وركبانا ، ويذبحوا ضحاياهم كما ترى ، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ونحر هديه يوم النحر ، وأنه ما منعه من فسخ الحج في العمرة إلا سوق الهدي ، وأن الهدي لو كان يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة ، لأحل بعمرة ، وذبح هدي التمتع عند الإحلال منها ، أو عند الإحرام بالحج ، كما يقول من ذكرنا : أنه جائز ، وقد قدمنا كثيرا منها موضحا بأسانيده ، وسنعيد طرفا منه هنا إن شاء الله تعالى .
[ ص: 149 ] فمن ذلك حديث
حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق عليه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه : حدثنا
إسماعيل قال : حدثني
مالك ، حدثنا
عبد الله بن يوسف ، أخبرنا
مالك ، عن
نافع عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008943عن حفصة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : " يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأن الناس حلوا بعمرة ، ولم تتحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أهل حتى أنحره " انتهى من صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وقوله : " حتى أنحر " ، يعني : يوم النحر ، فلو جاز نحر هدي التمتع قبل ذلك ، لأحل بعمرة ، ونحر .
وقال
مسلم في صحيحه : حدثنا
يحيى بن يحيى قال : قرأت على
مالك ، عن
نافع ، عن
عبد الله بن عمر nindex.php?page=hadith&LINKID=1008944أن حفصة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : " يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " . وفي لفظ له عنها ، قالت : قال : " إني قلدت هديي ، فلا أحل حتى أحل من الحج " . وفي لفظ له عنها : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008945أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع ، قالت حفصة : قلت : ما يمنعك أن تحل ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر هديي " اهـ .
ففي هذه الروايات الصحيحة ما يدل على أن الهدي الذي معه مانع من الحل ، ولو كان النحر قبل يوم النحر جائزا لتحلل بعمرة ثم نحر ، وفيه أن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - متمتعات ، وقد نحر عنهن البقر يوم النحر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا
عبد الله بن يوسف ، أخبرنا
مالك عن
nindex.php?page=showalam&ids=17314يحيى بن سعيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16693عمرة بنت عبد الرحمن قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008946سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة ، لا نرى إلا الحج ، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل . قالت : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قال : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه " ، قال
يحيى : فذكرته
nindex.php?page=showalam&ids=14946للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك بالحديث على وجهه ، انتهى من صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
وقال
مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16544عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17313يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
أبي الزبير ، عن
جابر قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008923ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر " . وفي لفظ
لمسلم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه " . وفي حديث
ابن بكر عن
عائشة بقرة في
[ ص: 150 ] حجته . انتهى من صحيح
مسلم ، وقد تركنا ذكر اختلاف الروايات ، هل ذبح عن جميعهن بقرة واحدة ، أو عن كل واحدة بقرة ، كما جاء به في حديث
مسلم ، هذا بالنسبة إلى
عائشة ، وعلى كل حال فهذه الروايات الصحيحة ، وأمثالها الكثيرة التي قدمنا كثيرا منها : تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر عمن تمتع من أزواجه ، ومن قرن في خصوص يوم النحر ، وأنه هو - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل عن نفسه ، وكان قارنا مع أنه كان يتمنى أن يعتمر ، ويحل منها ، ثم يحرم بالحج ، كما أمر أصحابه بفعل ذلك ، وصرح في الروايات الصحيحة : بأن المانع له من ذلك سوق الهدي ، فلو كان الهدي يجوز نحره قبل يوم النحر لتحلل ونحر كما أوضحناه ، وفعله هذا كالتفسير لقوله تعالى :
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، فبين بفعله أن بلوغه محله يوم النحر
بمنى ، بعد رمي جمرة العقبة ، فمن أجاز ذبح هدي التمتع قبل ذلك ، فقد خالف فعله - صلى الله عليه وسلم - المبين لإجمال القرآن ، وخالف ما كان عليه أصحابه من بعده وجرى عليه عمل عامة المسلمين ، ولا يثبت بنص صحيح عن صحابي واحد أنه نحر هدي تمتع أو قران قبل يوم النحر ، فلا يجوز العدول عن هذا الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - مبينا به إجمال الآيات القرآنية ، وأكده بقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008644لتأخذوا عني مناسككم " ، كما ترى .