تنبيه
اعلم أن ما يفعله كثير من الحجاج - الذين يزعمون التقرب بالهدي يوم النحر - من
ذبح الغنم في أماكن متفرقة من منى لا يقدر الفقراء على الوصول إليها ، والتمكن منها ، وتركها مذبوحة ليس بقربها فقير ينتفع بها ، وتضيع تلك الغنم بكثرة وتنتفخ وينتشر نتن ريحها في أقطار
منى ، حتى يعم أرجاءها النتن كأنه نتن الجيف ، أن كل ذلك لا يجوز وهو إلى المعصية أقرب منه إلى الطاعة . ولا يجوز لمن بسط الله يده إقرارهم على ذلك ; لأنه فساد وأذية لسائر الحجاج بالأرواح المنتنة ، وإضاعة للمال ، وإفساد له باسم التقرب إلى الله ، ودواء ذلك الداء المنتشر في
منى كل سنة أن يعلم كل مهد وكل مضح : أنه يلزمه إيصال لحم ما يتقرب به إلى الفقراء ، فعليه إذا ذبحها أن يؤجر من يسلخها طرية حين ذبحها أو يسلخها هو ، ويحملها بنفسه أو بأجرة ، حتى يوصلها إلى المستحقين ; لأن الله يقول :
فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، ويقول :
فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ولا يمكنه إطعام أحد ممن أمره الله بإطعامهم إلا بإيصال ذلك إليهم ، ولو اجتهد في إيصاله إليهم ، لأمكنه ذلك ; لأنه قادر عليه وعلى من بسط الله يده أن يعين الحجاج المتقربين بالدماء على طريق الإيصال إلى الفقراء بالطرق الكفيلة بتيسير ذلك كتهيئة عدد ضخم من العاملين للإيجار يوم النحر على سلخ الهدايا والضحايا طرية ، وحمل لحومها إلى الفقراء في أماكنهم ، وكتعدد مواضع الذبح في أرجاء
منى ، وفجاج
مكة ، ونحو ذلك من الطرق المعينة على إيصال الحقوق لمستحقيها .
[ ص: 158 ] واعلم أن التحقيق أن فقراء الحرم هم الموجودون فيه وقت نحر الهدايا من الآفاقيين ، وحاضري
المسجد الحرام ، فإن ذبح في موضع فيه فقراء ، وخلى بينهم وبين الذبيحة أجزأه ذلك ; لأنه يسر لهم الأكل منها بطريق لا كلفة عليهم فيها ، فكأنه أطعمهم بالفعل ، والعلم عند الله تعالى .
ومعلوم أن
المتمتع إذا لم يجد هديا أنه ينتقل إلى الصوم ، كما قال تعالى :
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] .
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن معنى قوله : ( في الحج ) : أي في حالة التلبس بإحرام الحج ; لأن الظاهر من اسم الحج هو الدخول في نفس الحج ، وذلك بالإحرام . وقال بعض أهل العلم : المراد بالحج أشهره ، واستدل بقوله تعالى :
الحج أشهر معلومات [ 2 \ 297 ] ولا دليل في الآية عندي ; لأن الكلام على حذف مضاف : أي زمن الحج أشهر معلومات . وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وعليه ، فينبغي أن يحرم بحجه ، قبل يوم التروية ليتم الثلاثة قبل يوم النحر ; لأن صومه لا يجوز .
وكره بعض أهل العلم للحاج صوم يوم عرفة ، واستحب أن يفرغ من صوم الثلاثة قبله ، وجزم به صاحب المهذب والتحقيق أن السبعة إنما يصومها بعد الرجوع إلى أهله ، ووصوله إلى بلده ، وأنه ليس المراد أنه يصومها في طريقه في رجوعه . وقد ثبت في الصحيح من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أن المراد الرجوع إلى أهله ، وهو ظاهر القرآن . فلا يجوز العدول عنه . والظاهر أن الأيام الثلاثة والأيام السبعة : لا يجب التتابع في واحد منهما ، لعدم الدليل على ذلك ، قال في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا ، وإن فاته صومها قبل يوم النحر ، فهل يجوز له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة ؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين :
أحدهما : أنه لا يجوز
صوم أيام التشريق للمتمتع .
والثاني : يجوز له صومها ، وفيها قول ثالث : أنها يجوز صومها مطلقا ، ولا يخفى بعد هذا القول وسقوطه . أما حجة من قال : إنها لا يجوز صومها للمتمتع ، ولا غيره فهو ما رواه
مسلم في صحيحه . وحدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15972سريج بن يونس ، حدثنا
هشيم ، أخبرنا
خالد ، عن
أبي المليح ،
[ ص: 159 ] عن
نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008951أيام التشريق أيام أكل وشرب " ، وفي لفظ عند
مسلم عنه زيادة : "
وذكر الله " .
وقال
مسلم في صحيحه أيضا : وحدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12508أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا
محمد بن سابق ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12377إبراهيم بن طهمان ، عن
أبي الزبير ، عن
ابن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه حدثه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008953أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق ، فنادى : " أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأيام منى أيام أكل وشرب " . وفي لفظ عند
مسلم : " فناديا " انتهى منه . قالوا : فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابيان : هما
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك ،
ونبيشة بن عبد الله الهذلي ، فيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذلك يدل على أنها لا يجوز صومها . وظاهر الحديث الإطلاق في المتمتع وغيره . وفي الحديث المذكور : الرد على من أجاز صومها مطلقا ، ومما يؤيد ذلك حديث
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص ، أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق : إنها الأيام التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صومهن ، وأمر بفطرهن . قال
ابن حجر في " الفتح " : أخرجه
أبو داود ،
وابن المنذر وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة والحاكم .
وأما حجة من قال بجواز صوم أيام التشريق الثلاثة للمتمتع الذي فاته صومها قبل يوم النحر ، فهي ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه ، قال : باب صيام أيام التشريق ، قال
أبو عبد الله : قال لي
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى : حدثنا
يحيى ، عن
هشام قال : أخبرني أبي كانت
عائشة - رضي الله عنها - تصوم أيام
منى ، وكان أبوها يصومها .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16769غندر ، حدثنا
شعبة : سمعت
عبد الله بن عيسى ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ، عن
عروة ، عن
عائشة ، وعن
سالم ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008954عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر - رضي الله عنهم - قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن ، إلا لمن لم يجد الهدي . انتهى منه . قالوا : فهذا الحديث له حكم الرفع وفيه التصريح بالترخيص في صوم أيام التشريق للمتمتع ، الذي لم يجد هديا ، والروايات الصحيحة التي رواها الحفاظ من أصحاب
شعبة ، لم يرخص بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول .
قال في " الفتح " : ووقع في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=17317يحيى بن سلام عن
شعبة عند
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني ، واللفظ له ،
nindex.php?page=showalam&ids=14695والطحاوي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008955رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق ، وقال : إن
nindex.php?page=showalam&ids=17317يحيى بن سلام ، ليس بالقوي ، ولم يذكر طريق
عائشة ، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن
[ ص: 160 ] nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ، عن
عروة عن
عائشة ، وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع ، بقي الأمر على الاحتمال .