تنبيه
إذا فرغ المتمتع من عمرته ، وكان لم يسق هديا فإن له التحلل التام ، فله مس الطيب والاستمتاع بالنساء ، وكل شيء حرم عليه بإحرامه ، فإن كان ساق الهدي ففيه للعلماء قولان :
أحدهما أن له التحلل أيضا ; لأن الله يقول في التمتع :
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ 2 \ 196 ] ، ولا يمنعه سوق الهدي من ذلك ; لأنه متمتع .
والقول الثاني : أنه لا يجوز له الإحلال حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر ، واستدل من قال بهذا بحديث :
حفصة - رضي الله عنها - الذي قدمناه أنها قالت له - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008963ما شأن الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " وكلا القولين قال به جماعة من الأئمة - رضي الله عنهم - .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أن له أن يحل من إحرامه ، ولكنه يؤخر ذبح هدي تمتعه ، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر ، كما قدمنا إيضاحه . والاحتجاج بحديث
حفصة المذكور لا ينهض كل النهوض ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، فحديثها ليس في محل النزاع ; لأن النزاع فيمن أحرم بعمرة يريد التحلل منها . والإحرام بالحج بعد ذلك . هل يمنعه سوق الهدي من التحلل ؟ وحديث
حفصة في القران ، والقران ليس محل نزاع ، وقولها : ولم تحلل أنت من عمرتك . تعني : عمرته المقرونة مع الحج ، لا عمرة مفردة بإحرام دون الحج ، كما هو معلوم ، وكما تقدم إيضاحه .
ومما يوضحه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008525لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " فدل على أنه لم يجعلها عمرة مفردة الذي هو محل النزاع ; لأن ظاهره أنها لو كانت مفردة لكان له الإحلال منها مطلقا ، ولا حجة في قوله : " لما سقت الهدي " ; لأنه ساقه لقران لا لعمرة مفردة عن الحج .
وقال
النووي : فإن قيل : قد ثبت في صحيح
مسلم ، عن
عائشة - رضي الله عنها - قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008964خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحجة ، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن [ ص: 172 ] أحرم بعمرة وأهدى فلا يتحلل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحجة فليتم حجه " .
فالجواب أن هذه الرواية مختصرة من روايتين ذكرهما
مسلم قبل هذه الرواية ، وبعدها قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008965خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " ، فهذه الرواية مفسرة للأولى ويتعين هذا التأويل ; لأن القصة واحدة فصحت الروايات . انتهى منه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومما يؤيد ما ذكرنا عن
النووي أن رواية حديث
عائشة المذكورة التي قال : إنها يجب تأويلها بتفسيرها بالروايات الصحيحة الأخرى فيها ما لفظه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008966ومن أهل بحجة فليتم حجه " ; لكثرة الروايات الصحيحة المتفق عليها عن جماعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من أحرم بحج مفردا ، ولم يسق هديا أن يفسخ حجه في عمرة ، ويحل منها الحل كله ، فعلم أن قولها : ومن أهل بحجة فليتم حجته : يجب تأويله ، وتفسيره بالروايات الأخرى الصحيحة ، كما قال
النووي . وقول من قال : إن سوق الهدي في عمرته يمنعه من الإحلال منها حتى ينحر يوم النحر له وجه قوي من النظر لدخوله في ظاهر عموم قوله تعالى :
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وهذا المعتمر المتمتع الذي ساق معه هدي التمتع إن حل من عمرته حلق قبل أن يبلغ هديه محله ، والعلم عند الله تعالى . ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الدماء الواجبة بغير النذر .
أما
الهدي الذي ليس بواجب : وهو هدي التطوع ، وهو مستحب فيستحب لمن قصد
مكة حاجا أو معتمرا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام ، وينحره ويفرقه ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وهو قارن ، ويكفي لدم القران بدنة واحدة ، بل شاة واحدة ، وبقية المائة تطوع منه - صلى الله عليه وسلم - : ويستحب أن يكون ما يهديه سمينا حسنا ; لقوله تعالى :
ذلك ومن يعظم شعائر الله الآية [ 22 \ 32 ] . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - تعظيمها الاستسمان والاستحسان والاستعظام ، ويؤيده قوله تعالى :
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 22 \ 36 ] . ومعلوم أن
أقل الهدي شاة تجزئ ضحية أو سبع بدنة أو بقرة كما تقدم إيضاحه ، ولا يكون من الحيوان إلا من بهيمة الأنعام ، وقد تقدم إيضاح الأنعام ، وأنها الأزواج الثمانية المذكورة في آيات من كتاب الله وهي : الجمل ، والناقة ، والبقرة ، والثور ، والنعجة ، والكبش ، والعنز ، والتيس .
[ ص: 173 ] واعلم أن التحقيق أن الهدي والإطعام يختص بهما فقراء الحرم المكي ، وأن الصوم لا يختص به مكان دون مكان ، مع اختلاف في الطعام ، كما تقدم إيضاحه في سورة " المائدة " .
وأظهر قولي أهل العلم أنه يلزمه ذبح الهدي في الحرم ، وتفريقه في الحرم أيضا ، خلافا لمن زعم جواز الذبح في الحل ، إن كان تفريق اللحم في الحرم ، والتحقيق أن
البدن يسن تقليدها ، وإشعارها فيقلدها نعلين . ومعنى إشعارها : هو جرحها في صفحة سنامها ، ويسلت الدم عنها . والجمهور على أن الإشعار في صفحة السنام اليمنى ، كما ثبت في الصحيح من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس خلافا
لمالك القائل : إنه في الصفحة اليسرى .
واعلم أن التحقيق أن الإشعار المذكور سنة لثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - خلافا
لأبي حنيفة القائل : بالنهي عنه ، معللا : بأنه مثلة وهي منهي عنها . وروي مثله عن
النخعي ; لأن الأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار تخصص عموم النهي عن المثلة ، ولأنه لا يسلم أنه مثلة ، فهو جرح لمصلحة : كالفصد والختان ، والحجامة ، والكي ، والوسم .
واعلم أن
الهدي من الغنم يسن تقليده عند عامة أهل العلم ، وخالف
مالك وأصحابه الجمهور ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث
عائشة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008967أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنما فقلدها " وقال بعض أهل العلم : لا تقلد بالنعال لضعفها ، وإنما تقلد بنحو عرى القرب ، ولا تشعر الغنم إجماعا ، والظاهر أن
مالكا لم يبلغه حديث تقليد الغنم ، ولو بلغه لعمل به ; لأنه صحيح متفق عليه ، وإشعار البقر إن كان له سنام لا نص فيه ، وقاسه جماعة من أهل العلم على إشعار الإبل . والمقصود من الإشعار والتقليد وتلطيخ الهدي بالدم ، هو أن يعلم كل من رآه أنه هدي ; لأنه قد يختلط بغيره ، فإذا أشعر وقلد تميز عن غيره ، وربما شرد فيعرف أنه هدي فيرد ، وهذه العلة موجودة في البقر ، فمقتضى القياس : إشعاره إن كان له سنام .
وقال بعض أهل العلم : الحكمة في تقليده النعلين أن المنتعل عندهم كالراكب لكون النعل تقي صاحبها الأذى من الحر والبرد والشوك ، والقذر ونحو ذلك فكأن المهدي خرج لله عن مركوبه الحيواني ، وغير الحيواني ، وظاهر صنيع
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أنهم قلدوا البقر في حجة الوداع ; حيث قال : باب
فتل القلائد للبدن والبقر ، ثم ساق حديث
حفصة المتقدم ، وفيه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008947إني لبدت رأسي وقلدت هديي " . الحديث ، وحديث
عائشة - رضي الله عنها - قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008968كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة ، فأفتل قلائد هديه " . . . الحديث ، فترى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري قال في الترجمة هذه : باب فتل القلائد للبدن والبقر .
[ ص: 174 ] وقال
ابن حجر . وترجمة
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري صحيحة ; لأنه إن كان المراد بالذي في الحديث : الإبل والبقر معا فلا كلام ، وإن كان المراد الإبل خاصة فالبقر في معناها . انتهى محل الغرض منه وهو كما قال .
والأظهر أن الصواب إن شاء الله أن البقر والإبل والغنم كلها تقلد إن كانت هديا ، وأن الغنم لا تشعر قولا واحدا ، وأن السنة الصحيحة ثابتة
بإشعار الإبل ، ومقتضى القياس أن البقر كذلك إن كان له سنام . والله تعالى أعلم .
واعلم أن التحقيق أن من أهدى إلى الحرم هديا وهو مقيم في بلده ليس بحاج ولا معتمر ، لا يحرم عليه شيء بإرسال الهدي كما هو ثابت في الصحيح . وعن
عائشة - رضي الله عنها - ثبوتا لا مطعن فيه ، فلا ينبغي أن يعول على ما خالفه ، والعلم عند الله تعالى ، ولذا ثبت في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أن
nindex.php?page=showalam&ids=15935زياد بن أبي سفيان كتب إلى
عائشة - رضي الله عنها - أن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج ، حتى ينحر هديه ، قالت :
عمرة . فقالت
عائشة - رضي الله عنها - : ليس كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله حتى نحر الهدي . وحديث
عائشة المذكور عند
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أخرجه
مسلم بألفاظ كثيرة معناها واحد ، إلا أن فيه أن الذي سأل
عائشة ابن زياد .
والصواب : ما في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من أن الذي كتب إليها يسألها هو
nindex.php?page=showalam&ids=15935زياد بن أبي سفيان المعروف
بزياد ابن أبيه ، كما نبه عليه غير واحد ، فما في
مسلم من كونه
ابن زياد وهم من بعض الرواة ، وقد قدمنا مرارا أن السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه يجب تقديمها على قول كل عالم ، ولو بلغ ما بلغ من العلم والدين ، وبه تعلم أن التحقيق أن من بعث بهدي ، وأقام في بلده لا يحرم عليه شيء بإرسال هديه ، وأن ما خالف ذلك لا يلتفت إليه ، وإن زعم جماعة أنه مروي عن
عمر وابنه ،
وعلي ،
nindex.php?page=showalam&ids=7246وقيس بن سعد بن عبادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين ،
وعطاء ،
والنخعي ،
ومجاهد ; لأن السنة الصحيحة مقدمة على أقوال كل العلماء وكذلك ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب : من أنه لا يجتنب إلا الجماع ليلة جمع : وهي ليلة النحر ، لا يلتفت إليه ; للحديث الصحيح المتفق عليه المذكور آنفا ، والحديث الذي رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي وغيره من طريق
عبد الملك بن جابر عن أبيه ، الدال على أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج ضعيف ، كما ذكره الحافظ في " الفتح " ، فلا يعارض به الحديث المتفق
[ ص: 175 ] عليه . وذكر
ابن حجر في " الفتح " ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : ما يدل على أن الأمر استقر على حديث
عائشة لما بينت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجع الناس عن فتوى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، والعلم عند الله تعالى .
واعلم أن التحقيق الذي عليه جمهور أهل العلم أن
من أراد النسك لا يصير محرما بمجرد تقليد الهدي ، ولا يجب عليه بذلك شيء ، خلافا لما حكاه
ابن المنذر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري وأحمد وإسحاق من أنه يصير محرما بمجرد تقليد الهدي ، وخلافا لأصحاب الرأي في قولهم : إن من ساق الهدي ، وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام ; لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه .
وقد دلت النصوص : على أنه لا يجب إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى .