صفحة جزء
مسألة : في حكم الهدي إذا عطب في الطريق أو بعد بلوغ محله

اعلم أولا أن الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق ، قبل بلوغ محله : أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه ، ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها ; ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلي بينها وبين الناس ، ولا يأكل منها هو ، ولا أحد من أهل رفقته المرافقين له في سفره .

وإنما قلنا : إن هذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه ; لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح ، فقد روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما لفظه : " بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بست عشرة بدنة مع رجل وامرأة فيها ، قال : فمضى ثم رجع ، فقال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما أبدع علي منها ؟ قال : " انحرها ، ثم اصبغ نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " ، انتهى من صحيح مسلم .

وفي رواية في صحيح مسلم ، عن ابن عباس : " أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن ثم يقول : " إن عطب شيء منها فخشيت عليه موتا فانحرها ، ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب بها صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " ، انتهى منه . وقوله : كيف أصنع بما أبدع منها ؟ : هو بضم الهمزة ، وإسكان الباء ، وكسر الدال بصيغة المبني للمفعول : أي كل وأعيا حتى وقف من الإعياء ، فهذا النص الصحيح .

لا يلتفت معه إلى قول من قال : إن رفقته لهم الأكل مع جملة المساكين ; لأنه مخالف للنص الصحيح ، ولا قول لأحد مع السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، كما أوضحناه مرارا . والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته : هو سد الذريعة لئلا يتوصل هو أو بعض رفقته إلى نحره ، بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أكل لحمه ; لأنه صار للفقراء ، وهم يعدون أنفسهم من الفقراء ، ولو لم يبلغ محله . والظاهر : أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء ، بل للفقراء والله أعلم .

فإن قيل : روى أصحاب السنن عن ناجية الأسلمي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معه [ ص: 179 ] بهدي فقال : " إن عطب فانحره ، ثم اصبغ نعله في دمه ، ثم خل بينه وبين الناس " اهـ . وظاهر قوله : " وبين الناس " ، يشمل بعمومه سائق الهدي ورفقته .

فالجواب أن حديث مسلم أصح وأخص ، والخاص يقضي على العام ; لأن حديث مسلم أخرج السائق ورفقته من عموم حديث أصحاب السنن . ومعلوم أن الخاص يقضي على العام .

واعلم أن للعلماء تفاصيل في حكم ما عطب من الهدي ، قبل نحره بمحل النحر ، سنذكر أرجحها عندنا إن شاء الله من غير استقصاء للأقوال والحجج ; لأن مسائل الحج أطلنا عليها الكلام طولا يقتضي الاختصار في بعضها خوف الإطالة المملة .

اعلم أولا أن الهدي إما واجب ، وإما تطوع ، والواجب إما بالنذر ، أو بغيره ، والواجب بالنذر ، إما معين ، أو غير معين ، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقران ، والدماء الواجبة بترك واجب ، أو فعل محظور ، والواجب بالنذر في ذمته ، كأن يقول : علي لله نذر أن أهدي هديا ، أن لجميع ذلك حالتين .

الأولى : أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه ، من غير أن يعينه بالقول ، كأن يقول : هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي .

والحالة الثانية : هي أن يسوقه ينوي به الهدي المذكور مع تعيينه بالقول ، فإن نواه ، ولم يعينه بالقول ; فالظاهر : أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه ، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع ; لأنه لم يزل في ملكه ، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب ; لأنه عطب في ضمانه ، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه بقصد دفعه إليه ، فتلف قبل أن يوصله إليه : فعليه قضاء الدين بغير التالف ; لأنه تلف في ذمته وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله ، فعليه بدله سليما ويفعل بالذي تعيب ما شاء ; لأنه لم يزل في ملكه ، وضمانه . والذي يظهر أن له التصرف فيه ، ولو لم يعطب ، ولم يتعيب ; لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه ، والهدي المذكور لازم له في ذمته ، حتى يوصله إلى مستحقه . والظاهر أن له نماءه .

وأما الحالة الثانية : وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول : هذا هو الهدي [ ص: 180 ] الواجب علي . والظاهر أن الإشعار والتقليد كذلك . فالظاهر : أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة ، فليس له التصرف فيه ما دام سليما ، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه ، وعاد الوجوب إلى ذمته . فيجب عليه هدي آخر ; لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو فعل به ما شاء ; لأن الهدي لازم في التقليد والإشعار . والظاهر : أنه إن عطب ذمته ، وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم ; لأن حقهم باق في الذمة ، فله بيعه وأكله ، وكل ما شاء . وعلى هذا جمهور أهل العلم . وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء ، ولا يبيع منه شيئا ، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق : فلا شيء عليه عند أحمد .

قال في " المغني " : وبهذا قال الثوري ، وابن القاسم صاحب مالك ، وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : عليه الإعادة ; لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه ، فأشبه ما لو لم يذبحه . ولنا أنه أدى الواجب عليه ، فبرئ منه كما لو فرقه . ودليل أنه أدى الواجب : أنه لم يبق إلا التفرقة ، وليست واجبة ، بدليل أنه لو خلى بينه ، وبين الفقراء أجزأه . ولذلك لما نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنات قال : " من شاء اقتطع " . انتهى محل الغرض من " المغني " .

وأظهر القولين عندي : أنه لا تبرأ ذمته بذبحه : حتى يوصله إلى المستحقين ; لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به ، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيا ، ولأن الله تعالى يقول : وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، ويقول : وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ، والآيتان تدلان على لزوم التفرقة والتخلية بينه وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية ; لأن الإذن لهم في ذلك ، وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل ، والعلم عند الله تعالى . وقول من قال : إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره ، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور ، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد . وحجة من قال بذلك : أنه لما عينه متقربا به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك ، ولو لم يجزئه .

وأما الواجب المعين بالنذر ، كأن يقول : نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين ، فالظاهر أنه يتعين بالنذر ، ولا يكون في ذمته ، فإن عطب أو سرق : لم يلزمه بدله ; لأن حق الفقراء إذا تعلق بعينه ، لا بذمة المهدي . والظاهر : أنه ليس له الأكل منه ، سواء عطب في الطريق أو بلغ محله .

وحاصل ما ذكرنا : راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقا بذمته سليما فالظاهر أن له الأكل منه ، والتصرف فيه ; لأنه يلزمه بدله سليما ، وقيل : يلزم الذي عطب [ ص: 181 ] والسليم معا لفقراء الحرم ، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدي كالنذر المعين للمساكين ، ليس له تصرف فيه ، ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره ، إن بلغ محله على الأظهر .

واعلم أن مالكا وأصحابه يقولون : إن كل هدي جاز الأكل منه للمهدي له ، أن يطعم منه من شاء من الأغنياء والفقراء ، وكل هدي لا يجوز له الأكل منه ، فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم ، وكره عندهم إطعام الذميين منه . وستأتي تفاصيل ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز إن شاء الله تعالى في الكلام على آية : فكلوا منها الآية [ 22 \ 28 ] .

وأما هدي التطوع : فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه ، وخلي بينه وبين الناس ، وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته ، كما تقدم إيضاحه ، وليس لصاحبه الأكل منه عند مالك وأصحابه . وهو ظاهر مذهب أحمد ، وليس عليه بدله ; لأنه معين لم يتعلق بذمته . وأما مذهب الشافعي ، وأصحابه : فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه ، فله ذبحه ، وأكله ، وبيعه وسائر التصرفات فيه ولو قلده ; لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه ، حتى يذبحه بمحله ، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما شاء من بيع وأكل وإطعام ; لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك . وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله : فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء ، وإنما يأكله الفقراء . ووجه قول من قال : إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق ، لا يجوز لمهديه أن يأكل منه : هو أن الإذن له في الأكل ، جاء النص به بعد بلوغه محله ، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله ، ووجه خصوص الفقراء به ; لأنه حينئذ يصير صدقة ; لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله . هكذا قالوا : والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية