تنبيه
قد قدمنا في سورة " البقرة " أن القرآن دل في موضعين على أن
نحر الهدي قبل الحلق ، والتقصير يوم النحر ، وبينا أنه لو
قدم الحلق على النحر لا شيء عليه ، وأوضحنا ذلك في الكلام على قوله تعالى :
فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي .
والحاصل أن الحاج مفردا كان أو قارنا أو متمتعا إن رمى جمرة العقبة ونحر ما معه من الهدي : فعليه
الحلق أو التقصير ، وقد قدمنا أن التحقيق أن الحلق نسك وأنه
[ ص: 183 ] أفضل من التقصير ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008977رحم الله المحلقين " ، قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ؟ قال : " رحم الله المحلقين " ، قالوا : والمقصرين ؟ فقال : " والمقصرين " في الرابعة ، أو الثالثة كما تقدم إيضاحه . فدل دعاؤه للمحلقين بالرحمة مرارا : على أن
الحلق نسك ; لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالرحمة ، ودل تأخير الدعاء للمقصرين إلى الثالثة أو الرابعة أن التقصير مفضول ، وأن الحلق أفضل منه ، والتقصير مع كونه مفضولا : يجزئ بدلالة الكتاب ، والسنة والإجماع ; لأن الله تعالى يقول :
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين [ 48 \ 27 ] ، وقد روى الشيخان ، وغيرهما : التقصير عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - .
فمن ذلك حديث
جابر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008978أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت ، وبين الصفا والمروة ، وقصروا " . وفي الصحيحين ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008979حلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم " ، وقد قدمنا حديث
معاوية الثابت في الصحيحين ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008554قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص على المروة وحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008980رحم الله المحلقين " ، ثم قال بعد ذلك : " والمقصرين " إلى غير ذلك من الأحاديث .
وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ ، ولكنهم اختلفوا في
القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأصحابه : يكفي فيهما حلق ثلاث شعرات فصاعدا أو تقصيرها ; لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق أو تقصير ; لأن الثلاث جمع .
وقال
أبو حنيفة : يكفي حلق ربع الرأس ، أو تقصير ربعه بقدر الأنملة .
وقال
مالك ،
وأحمد وأصحابهما : يجب
حلق جميع الرأس ، أو تقصير جميعه ، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعرة ، بل يكفيه أن يأخذ من جميع جوانب الرأس ، وبعضهم يقول : يكفيه قدر الأنملة ، والمالكية يقولون : يقصره إلى القرب من أصول الشعر .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنه يلزم حلق جميع الرأس ، أو تقصير جميعه ، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير ; لأن فيه مشقة كبيرة ، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة ، وأنه لا يكفي الربع ، ولا ثلاث شعرات خلافا للحنفية والشافعية ; لأن الله تعالى يقول :
محلقين رءوسكم ، ولم يقل :
[ ص: 184 ] بعض رءوسكم ومقصرين أي : رءوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه ، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره ، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007221دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس ، لم يدع ما يريبه ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق في حجة الوداع ، حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه
لأبي طلحة ليفرقه على الناس . وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله :
محلقين رءوسكم الآية ، وقوله :
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله .
وقد قدمنا أن
فعله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كان بيانا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبين لذلك النص واجب . ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول .