قوله تعالى :
فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .
الضمير في قوله : ( منها ) . راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى :
[ ص: 193 ] ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها وإطعام البائس الفقير منها ، أمر بنحوه في خصوص البدن أيضا في قوله تعالى :
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله إلى قوله :
فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر الآية [ 22 \ 36 ] ، ففي الآية الأولى : الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن ، وبغيرها ، وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام ، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه ، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة . وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل ، وإطعام البائس الفقير ، وفي الآية الخاصة بالبدن : أمر بالأكل ، وإطعام القانع والمعتر .
وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان .
الأول : حكم الأكل المأمور به في الآيتين ، هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر ، أو الندب والاستحباب ؟
المبحث الثاني : فيما يجوز الأكل منه لصاحبه ، وما لا يجوز له الأكل منه ، ومذاهب أهل العلم في ذلك .
أما المبحث الأول : فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين : للاستحباب ، والندب ، لا للوجوب ، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر : هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك .
وعليه فالمعنى : فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون ، وقال
ابن كثير في تفسيره : إن القول بوجوب الأكل غريب ، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب قال : وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في تفسيره ، وقال
القرطبي في تفسيره : فكلوا منها : أمر معناه : الندب عند الجمهور ، ويستحب للرجل ، أن يأكل من هديه وأضحيته ، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل ، وأكل الكل وشذت طائفة ، فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008986فكلوا وادخروا وتصدقوا " ، قال الكيا في قوله تعالى :
فكلوا منها وأطعموا ، يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ، ولا التصدق بجميعه . انتهى كلام
القرطبي .
[ ص: 194 ] ومعلوم أن بيع جميعه لا وجه لحليته ، بل ولا بيع بعضه ، كما هو معلوم .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقوى القولين دليلا : وجوب
الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا ; لأن الله تعالى قال :
فكلوا منها في موضعين . وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة افعل : تدل على الوجوب إلا لدليل صارف عن الوجوب ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله :
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] .
وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، منها آية " الحج " التي ذكرنا عندها مسائل الحج .
ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008987أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة لحم من كل واحدة منها ، فأكل منها وشرب من مرقها " . وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها ، وهذا يدل على أن الأمر في قوله :
فكلوا منها ليس لمجرد الاستحباب والتخيير ، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها ، وشرب مرقه دون بعض ، وكذلك الإطعام فالأظهر فيه الوجوب .
والحاصل أن المشهور عند الأصوليين أن
صيغة افعل : تدل على الوجوب إلا لصارف عنه ، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين ، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب وكذلك الإطعام ، هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية ، وقد دلت عليها أدلة الوحي ، كما قدمنا إيضاحه . وقال
أبو حيان في " البحر المحيط " : والظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل : باستحبابهما . وقيل : باستحباب الأكل ، ووجوب الإطعام . والأظهر أنه : لا تحديد للقدر الذي يأكله والقدر الذي يتصدق به ، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء ، وقد قال بعض أهل العلم : يتصدق بالنصف ، ويأكل النصف ، واستدل لذلك بقوله تعالى :
فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، قال : فجزأها نصفين ، نصف له ونصف للفقراء ، وقال بعضهم : يجعلها ثلاثة أجزاء ، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ، ويهدي الثلث ، واستدل بقوله تعالى :
فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ، فجزأها ثلاثة أجزاء ، ثلث له ، وثلث للقانع ، وثلث للمعتر . هكذا قالوا وأظهرها الأول ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 195 ] والبائس : هو الذي أصابه البؤس ، وهو الشدة . قال
الجوهري في صحاحه : وبئس الرجل يبأس بؤسا وبئيسا : اشتدت حاجته ، فهو بائس وأنشد
أبو عمرو :
لبيضاء من أهل المدينة لم تذق بئيسا ولم تتبع حمولة مجحد
وهو اسم وضع موضع المصدر انتهى منه . يعني أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف ، ومعناه المصدر ، والفقير معروف ، والقاعدة عند علماء التفسير أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، وعلى قولهم : فالفقير هنا يشمل المسكين ; لأنه غير مذكور معه هنا ، وذلك هو مرادهم ، بأنهما إذا افترقا اجتمعا ، ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقرا ، وقد ذكرنا حجج الفريقين وناقشناها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " البلد " ، ومما استدل به القائل : إن الفقير أحوج من المسكين ، وأن
المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى :
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر الآية [ 18 \ 79 ] ، قالوا : فسماهم مساكين ، مع أن عندهم سفينة عاملة للإيجار .
ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير أن الله قال في المسكين :
أو مسكينا ذا متربة [ 90 \ 16 ] ، قالوا : ذا متربة : أي لا شيء عنده . حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر ، ليس له مأوى إلا التراب .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له . وقال
مجاهد : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ، ولا غيره انتهى من
القرطبي . وعضدوا هذا بأن
العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه ، ومنه قول راعي نمير : أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد فسماه فقيرا مع أن له حلوبة قدر عياله .
وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور ، فأغنانا ذلك عن إعادته هنا ، والعلم عند الله تعالى .
وأما المبحث الثاني : وهو ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم ، وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها : فذهب
مالك - رحمه الله - ، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، والنذر الذي هو للمساكين ، وقال
اللخمي : كل هدي واجب في
[ ص: 196 ] الذمة ، عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران ، أو تعدي ميقات ، أو ترك النزول
بعرفة نهارا ، أو ترك النزول
بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده . أما جزاء الصيد ، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغهما محلهما ، ولا يؤكل منهما بعده . وأما
النذر المضمون إذا لم يسمه للمساكين : فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله ، وإن كان منذورا معينا ، ولم يسمه للمساكين ، أو قلده ، وأشعره من غير نذر أكل منه بعد بلوغه محله ، ولم يأكل منه قبله وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد .
والحاصل أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقا ، عند
مالك وأن النذر المضمون للمساكين ، حكمه عند المالكية حكم جزاء الصيد وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه بعد بلوغه محله ، ويجوز قبله ; لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله . وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله : علي لله نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي ، فله عند المالكية : الأكل منه قبل بلوغ محله ، وبعده ، وقد قدمنا أن
هدي التطوع إن عطب في الطريق ، لا يجوز له الأكل منه عند المالكية ، وأوضحنا دليل ذلك . هذا هو حاصل مذهب
مالك في الأكل من الهدايا ، ولا خلاف في جواز الأكل من الضحايا . وقد قدمنا قول
اللخمي من المالكية أن كل هدي جاز أن يأكل منه : جاز أن يطعم منه من شاء من غني وفقير ، وكل هدي لم يجز له أن يأكل منه ، فإنه يطعمه فقيرا ، لا تلزمه نفقته كالكفارة . وكره
ابن القاسم من أصحاب
مالك إطعام الذمي من الهدايا كما تقدم . ومذهب
أبي حنيفة - رحمه الله - : أنه يأكل من هدي التمتع والقران ، وهدي التطوع إذا بلغ محله ، أما إذا عطب هدي التطوع ، قبل بلوغ محله ، فليس لصاحبه الأكل منه عند
أبي حنيفة ، كما تقدم إيضاحه . ولا يأكل من غير ذلك ، هو ولا غيره من الأغنياء ، بل يأكله الفقراء . هذا حاصل مذهب
أبي حنيفة - رحمه الله - .
وأما مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رحمه الله - : فهو أن الهدي إن كان تطوعا ، فالأكل منه مستحب ، واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله :
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] . قالوا : فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين تركه ، وأكله ، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال .
واعلم أنا حيث قلنا في هذا المبحث : يجوز الأكل ، فإنا نعني : الإذن في الأكل الصادق بالاستحباب ، وبالوجوب لما قدمنا من الخلاف ، في وجوب الأكل والإطعام ،
[ ص: 197 ] واستحبابهما ، والفرق بينهما بإيجاب الإطعام دون الأكل ، وكل هدي واجب لا يجوز الأكل منه في مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، كهدي التمتع والقران ، والنذر ، وجميع الدماء الواجبة ، قال
النووي : وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15858وداود الظاهري : لا يجوز الأكل من الواجب . هذا هو حاصل مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
وأما مذهب
أحمد - رحمه الله - : فهو أنه لا يأكل من هدي واجب ، إلا هدي التمتع والقران ، وأنه يستحب له أن يأكل من هدي التطوع ، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته ، وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه ، هذا هو مشهور مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد . وعنه رواية أنه لا يأكل من المنذور ، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما .
قال في " المغني " : وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق ; لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما .
وقال
ابن أبي موسى : لا يأكل أيضا من الكفارة ، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ، ونحوه مذهب
مالك ; لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ، ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا يأكل من واجب ; لأنه هدي واجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة . انتهى من " المغني " .
فقد رأيت مذاهب الأربعة فيما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة : هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك ، والأكل من هدي التطوع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله ، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه ، أو وجوبه ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع : " أنه أهدى مائة من الإبل " ، ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع ، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعا .
وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران ، فهو ما قدمنا مما ثبت في الصحيح : "
أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عنهن - صلى الله عليه وسلم - بقرا ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات ، وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره - صلى الله عليه وسلم - " وهو نص صحيح صريح في جواز
الأكل من هدي التمتع والقران . أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه ، ولا يتحقق دخوله في عموم
فكلوا منها لأنه لترك
[ ص: 198 ] واجب أو فعل محظور ، فهو بالكفارات أشبه ، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط . والعلم عند الله تعالى .