الفرع الثالث : اعلم أن من نذر شيئا من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به ، لعجزه عنه .
[ ص: 241 ] واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه ، فلو نذر مثلا أن يحج ، أو يعتمر ماشيا على رجليه ، وهو عاجز عن المشي : جاز له الركوب لعجزه عن المشي ، وإن قدر على المشي : لزمه .
وفي حالة ركوبه عند العجز ، اختلف العلماء فيما يلزمه ، فقال بعضهم : لا شيء عليه ; لأنه عاجز ، والله يقول :
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر . وقال بعضهم : تلزمه كفارة يمين . وقال بعضهم : يلزمه صوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : تلزمه بدنة . وقال بعضهم : يلزمه هدي .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن
من نذر المشي إلى بيت الله الحرام ، لزمه الوفاء بنذره . وبهذا قال
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وأبو عبيد ،
وابن المنذر ، ولا نعلم فيه خلافا ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009097لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " . ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة . وبه يقول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . ولا أعلم فيه خلافا ، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع : هو المشي في حج أو عمرة ، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي . ويلزمه المشي فيه لنذره ، فإن عجز عن المشي ركب ، وعليه كفارة يمين ، وعن
أحمد رواية أخرى : أنه يلزمه دم ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وأفتى به
عطاء لما روى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=1009098أن أخت nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب ، وتهدي هديا . رواه
أبو داود ، وفيه ضعف ; ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي ، كتارك الإحرام من الميقات . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وابن الزبير قالا : يحج من قابل ، بل ويركب ما مشى ، ويمشي ما ركب ونحوه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وزاد ، فقال : ويهدي ، وعن
الحسن مثل الأقوال الثلاثة ، وعن
النخعي روايتان : إحداهما : كقول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، والثانية : كقول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وهذا قول
مالك . وقال
أبو حنيفة : عليه هدي سواء عجز عن المشي ، أو قدر عليه . وأقل الهدي : شاة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا يلزمه مع العجز كفارة بحال ، إلا أن يكون النذر مشيا إلى
بيت الله الحرام ، فهل يلزمه هدي ؟ فيه قولان . وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء ، انتهى محل الغرض من " المغني " .
وإذا علمت
أقوال أهل العلم فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عنه ، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه جمعها في محل واحد . أما من قال : تلزمه كفارة يمين فقد احتج بما رواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله
[ ص: 242 ] عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009099من نذر نذرا ولم يسمه ، فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين " اهـ .
قال الحافظ في " بلوغ المرام " : في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هذا إسناده صحيح ، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه ، اهـ . كما تقدمت الإشارة إليه .
ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه
كريب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009100جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ; لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها " ، رواه
أحمد ،
وأبو داود ، وقال في " نيل الأوطار " : في هذا الحديث سكت عنه
أبو داود ،
والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح . والظاهر المتبادر أن المراد بالتكفير عن اليمين : هو كفارة اليمين المعروفة ، ولقد صدق
الشوكاني في أن رجال حديث
أبي داود المذكور رجال الصحيح ; لأن
أبا داود قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15699حجاج بن أبي يعقوب ، ثنا
أبو النضر ، ثنا
شريك ، عن
محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن
كريب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه ، فطبقة إسناده الأولى
حجاج بن أبي يعقوب ، وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر
مسلم في صحيحه من الإخراج له ، وهو ثقة حافظ ، وطبقته الثانية :
أبو النضر ، وهو هاشم بن القاسم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل ، ولقبه
قيصر ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له الجميع . وطبقته الثالثة هي :
شريك ، وهو ابن عبد الله بن أبي شريك النخعي ، أبو عبد الله الكوفي القاضي . أخرج له
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري تعليقا ، وهو من رجال
مسلم . وظاهر كلام
ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أن
مسلما إنما أخرج له في المتابعات ، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك ، وطبقته الرابعة :
محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، وهو من رجال
مسلم ، وهو ثقة . وطبقته الخامسة :
كريب بن أبي مسلم الهاشمي ، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة ، وأنه أخرج له الجميع .
هذا هو حاصل
حجة من قال : إن على من نذر نذرا ، ولم يطقه كفارة يمين ، وأما الذين قالوا : عليه صيام ثلاثة أيام ، فقد احتجوا بما رواه
أحمد ، وأصحاب السنن عن
nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر - رضي الله عنه -
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009101أن أخته نذرت أن تمشي حافية ، غير مختمرة ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " ، اهـ بواسطة نقل المجد في " المنتقى " . قال
الشوكاني في هذا الحديث : حسنه
[ ص: 243 ] الترمذي ولكن في إسناده
عبيد الله بن زحر ، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، انتهى محل الغرض منه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر كلام
أبي داود في
عبيد الله بن زحر المذكور : أنه ثقة عنده ; لأنه ذكر تزكيته عن
nindex.php?page=showalam&ids=17314يحيى بن سعيد الأنصاري ، ولم يتعقب ذلك بشيء .
فقد قال
أبو داود في هذا الحديث : حدثنا
مسدد ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17293يحيى بن سعيد القطان قال : أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=17314يحيى بن سعيد الأنصاري ، أخبرني
عبيد الله بن زحر أن
أبا سعيد أخبره أن
عبد الله بن مالك أخبره أن
nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر أخبره :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009102أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة ، فقال : " مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " .
حدثنا
مخلد بن خالد ، ثنا
عبد الرزاق ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : كتبت إلى
nindex.php?page=showalam&ids=17314يحيى بن سعيد ، أخبرني
عبيد الله بن زحر ، مولى
لبني ضمرة ، وكان أيما رجل أن
أبا سعيد الرعيني ، أخبره بإسناد
يحيى ، ومعناه ، اهـ من سنن
أبي داود ، فكتابة
nindex.php?page=showalam&ids=17314يحيى بن سعيد الأنصاري إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج في
ابن زحر المذكور . وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية ; لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام ، إنما هو في الثقة والعدالة ، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي :
فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عينا حبتر أيما فتى
وقال
ابن حجر في " التقريب " ، في
ابن زحر المذكور : صدوق يخطئ ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم : المثني ، ومنهم القادح .
وحجة من قال إن عليه بدنة : هي ما رواه
عكرمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=1009103أن nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة " ، رواه
أحمد ،
وأبو داود . وقال
الشوكاني في هذا الحديث : سكت عنه
أبو داود والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح : قال الحافظ في " التلخيص " : إسناده صحيح .
وحجة من قال : إن عليه هديا هي : ما رواه
أبو داود ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى ، ثنا
أبو الوليد ، ثنا
همام ، عن
قتادة ، عن
عكرمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=1009104أن أخت nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديا . وقال
الشوكاني في
[ ص: 244 ] هذا الحديث : سكت عنه
أبو داود والمنذري ، ولزوم الهدي المذكور مروي عن
مالك في " الموطأ " وفسر الهدي : ببدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، إن لم تجد غيرها .
هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم : فيما يلزم من
نذر شيئا ، وعجز عن فعله . والقول بالهدي والقول بالبدنة ، يمكن الجمع بينهما ; لأن البدنة هدي ، والخاص يقضي على العام .
وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك ، وأحوطها فيمن عجز عن المشي ، الذي نذره في الحج : البدنة ; لأنها أعظم ما قيل في ذلك ، وليس من المستبعد ، أن تلزم البدنة ، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين ; لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر . فحديث لزوم كفارة اليمين لم يصرح بعدم إجزاء البدنة ، وحديث الهدي لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلا وهكذا .
وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام . وظاهر النصوص العامة : أنه لا شيء عليه ; لأن الله يقول :
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، ويقول :
فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007851إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وقد ثبت في صحيح
مسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=1009105أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] قال الله : قد فعلت " . وفي رواية : نعم ، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى :
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .
الآية [ 2 \ 286 ] .