[ ص: 272 ] مسألة
اعلم أن
كأين فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما ، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب ، وهي قراءة الجمهور كما بينا ، وكائن بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب ، ولم يقرأ بها من السبعة غير
ابن كثير كما بينا ، ومعنى كأين : كمعنى كم الخبرية ، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان :
الأولى : أن يجر بمن وهي لغة القرآن كقوله :
وكأين من قرية [ 65 \ 8 ] وقوله
وكأين من نبي الآية [ 3 \ 146 ]
وكأين من آية في السماوات والأرض الآية [ 12 \ 105 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله :
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصيب هو المصابا
الحالة الثانية : أن ينصب ومنه قوله :
وكائن لنا فضلا عليكم ومنة قديما ولا تدرون ما من منعم
وقول الآخر :
اطرد اليأس بالرجاء فكائن آلما حم يسره بعد عسر
قال في الخلاصة :
ككم كأين وكذا وينتصب تمييز ذين أو به صل من تصب
أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا
ابن مالك ، وابن قتيبة ،
وابن عصفور ، واستدل له
ابن مالك بما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب أنه قال
nindex.php?page=showalam&ids=10لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثا وسبعين اهـ .
واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه ، وأي المنونة ، قال بعضهم : ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور ; لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ، ولهذا رسم في المصحف نونا وقراءة
أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل ، وهو حذفه في الوقف .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي أن كأين بسيطة ، وأنها كلمة
[ ص: 273 ] وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو : كم ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة ، ومن الدليل على أنها بسيطة : إثبات نونها في الخط ; لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط ، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل ، واختار
أبو حيان أنها غير مركبة ، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات ، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما ، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان ; لأن إحداهما قرأ بها
ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور ، واللغة الثالثة فيها : كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة ، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة ، الخامسة : كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة اهـ ، ولقد صدق
أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة .
والله تعالى أعلم .
واعلم : أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة ، والقصر المشيد معروفان ، وأنهما
بحضرموت ، وأن القصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال ، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئا سقط فيها إلا أخرجته ، وما يذكرونه أيضا من أن البئر هي : الرس ، وأنها كانت
بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له :
حضور ، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا
بصالح ، ونجوا من العذاب ومعهم
صالح ، فمات
صالح ، فسمي المكان
حضرموت ; لأن
صالحا لما حضره مات فبنوا
حضور وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم رجلا يقال له :
العلس بن جلاس بن سويد أو
جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم ، وجعلوا وزيره
سنجاريب بن سوادة ، فأقاموا دهرا ، وتناسلوا حتى كثروا ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها ، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ; لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم ، وحياض للبقر ، ولم يكن لهم ماء غيرها ، وآل بهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير ، وأن الشيطان دخل في جثته ، وزعم لهم أنه هو الملك ، وأنه لم يمت ولكنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجابا ، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت ، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبيا اسمه :
حنظلة بن صفوان يوحى إليه في النوم دون اليقظة ، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات ، ونهاهم عن الشرك بالله ووعظهم ونصح لهم ، وحذرهم عقاب ربهم ، فقتلوا نبيهم المذكور في
[ ص: 274 ] السوق ، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله ، فأصبحوا والبئر غار ماؤها ، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم ، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش ، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية ، كله لا معول عليه ; لأنه من جنس الإسرائيليات ، وظاهر القرآن يدل على خلافه ، لأن قوله :
وكأين من قرية [ 22 \ 48 ] معناه : الإخبار بأن
عددا كبيرا من القرى أهلكهم الله بظلمهم ، وأن كثيرا من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها ، وأن كثيرا من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم ; لأن مميز كأين ، وإن كان لفظه مفردا فمعناه يشمل عددا كثيرا كما هو معلوم في محله .
وقال
أبو حيان في " البحر المحيط " وعن
الإمام أبي القاسم الأنصاري قال : رأيت قبر
صالح بالشام في بلدة يقال لها :
عكا فكيف يكون
بحضرموت ، ومعلوم أن ديار قوم
صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من
المدينة إلى
الشام ، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بها في طريقه إلى
تبوك في غزوة
تبوك ، ومن المستبعد أن يقطع
صالح ، ومن آمن من قومه هذه المسافة الطويلة البعيدة من أرض الحجر إلى
حضرموت من غير داع يدعوه ويضطره إلى ذلك ، كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .