قوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الذين آمنوا به وبرسله ، وكل ما يجب الإيمان به ، وعملوا الفعلات الصالحات من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي لهم من الله مغفرة لذنوبهم ، ورزق كريم أي : حسن ، هو ما يرزقهم من أنواع النعيم في جناته ، وأن
[ ص: 282 ] الذين عملوا بخلاف ذلك فهم أصحاب الجحيم أي : النار الشديد حرها ، وفي هذه الآية وعد لمن أطاعه ووعيد لمن عصاه ، والآيات بمثل ذلك في القرآن كثيرة كقوله تعالى
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 - 50 ] وقوله
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول الآية [ 40 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع وقوله في هذه الآية الكريمة
والذين سعوا في آياتنا معاجزين [ 22 \ 51 ] قال
مجاهد : معاجزين يثبطون الناس عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قال
عبد الله بن الزبير : مثبطين ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : معاجزين أي مغالبين ومشاقين ، وعن
الفراء معاجزين : معاندين ، وعن
الأخفش معاجزين : معاندة مسابقين ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج معاجزين أي : ظانين أنهم يعجزوننا ; لأنهم ظنوا ألا بعث ، وأن الله لا يقدر عليهم .
واعلم : أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين قرأه الجمهور : معاجزين بألف بين العين والجيم بصيغة المفاعلة اسم فاعل عاجزه ، وقرأه
ابن كثير ،
وأبو عمرو : معجزين بلا ألف مع تشديد الجيم المكسورة على صيغة اسم الفاعل من عجزه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر بحسب الوضع العربي في قراءة الجمهور معاجزين : هو اقتضاء طرفين ، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، والمفاعلة تقتضي الطرفين إلا لدليل يصرف عن ذلك ، واقتضاء الفاعلة الطرفين في الآية من طريقين .
الأولى : هي ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14120ابن عرفة من أن معنى معاجزين في الآية أنهم يعاجزون الأنبياء وأتباعهم ، فيحاول كل واحد منهما إعجاز الآخر فالأنبياء وأتباعهم ، يحاولون إعجاز الكفار وإخضاعهم لقبول ما جاء عن الله تعالى ، والكفار يقاتلون الأنبياء ، وأتباعهم ، ويمانعونهم ، ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله ، وهذا الوجه ظاهر كما قال تعالى
ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ 2 \ 217 ] وعليه فمفعول معاجزين محذوف : أي معاجزين الأنبياء وأتباعهم ، أي مغالبين لهم ، ليعجزوهم عن إقامة الحق .
الطريقة الثانية : هي التي ذكرناها آنفا عن
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج أن معنى معاجزين : ظانين أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر عليهم لزعمهم أنه لا يقدر على بعثهم بعد الموت كما قال تعالى
[ ص: 283 ] زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] وكما قال تعالى
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وقال تعالى عنهم إنهم قالوا
وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ]
وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] وعلى هذا القول فالكفار معاجزين الله في زعمهم الباطل ، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن زعمهم هذا كاذب ، وأنهم لا يعجزون ربهم بحال كقوله تعالى
واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] وقوله
فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] وقوله
وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 22 ] وقوله تعالى في " الجن "
وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا [ 72 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك - رضي الله عنه - :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
ومراده بسخينة
قريش يعني : أنهم يحاولون غلبة ربهم ، والله غالبهم بلا شك والوجه الأول أظهر ، وأما على قراءة
ابن كثير ،
وأبي عمرو : معجزين بكسر الجيم المشددة ، بلا ألف ، فالأظهر أن المعنى معجزين أي : مثبطين من أراد الدخول في الإيمان عن الدخول فيه ، وقيل معجزين من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى ذلك : أنهم ينسبونهم إلى العجز من قولهم : عجزه بالتضعيف إذا نسبه إلى العجز الذي هو ضد الحزم ، يعنون : أنه يحسبون المسلمين سفهاء لا عقول لهم ، حيث ارتكبوا أمرا غير الحزم والصواب ، وهو اتباع دين الإسلام في زعمهم كما قال تعالى عن إخوانهم المنافقين
وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء الآية [ 2 \ 13 ] وقوله في هذه الآية الكريمة
والذين سعوا في آياتنا [ 22 \ 51 ] .
اعلم أولا : أن السعي يطلق على العمل في الأمر لإفساده وإصلاحه ، ومن استعماله في الإفساد قوله تعالى هنا
والذين سعوا في آياتنا أي : سعوا في إبطالها وتكذيبها بقولهم : إنها سحر وشعر وكهانة وأساطير الأولين ، ونحو ذلك . ومن إطلاق السعي في الفساد أيضا قوله تعالى
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية [ 2 \ 205 ] ومن إطلاق السعي في العمل للإصلاح قوله تعالى
إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا [ 76 \ 22 ]
[ ص: 284 ] وقوله
وأما من جاءك يسعى وهو يخشى الآية [ 80 \ 8 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ومن إطلاق السعي على الخير والشر معا قوله تعالى
إن سعيكم لشتى إلى قوله
وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 4 - 11 ] وهذه الآية التي ذكرها هنا في سورة " الحج " التي هي قوله تعالى
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم [ 22
- 51 ] جاء معناها واضحا في سورة سبأ في قوله تعالى
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم [ 38 \ 4 - 5 ] فالعذاب من الرجز الأليم المذكور في " سبأ " هو عذاب الجحيم المذكور في الحج .