الفرع الرابع : اعلم أنه
إن أقر بأنه زنى بامرأة وسماها فكذبته ، وقالت : إنه لم يزن بها .
فأظهر أقوال أهل العلم عندي : أنه يجب عليه حد الزنى بإقراره ، وحد القذف أيضا ; لأنه قذف المرأة بالزنا ولم يأت بأربعة شهود فوجب عليه حد القذف .
وقال في " المغني " : وقال
أبو حنيفة ،
وأبو يوسف : لا حد عليه ، لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وجوب الحد عليه بإقراره لا ينبغي العدول عنه ، ولا يمكن أن يصح خلافه لأمرين :
الأول : أنه أقر على نفسه بالزنا إقرارا صحيحا ، وقولهم إننا صدقناها ليس بصحيح ، بل نحن لم نصدقها ، ولم نقل إنها صادقة ، ولكن انتفاء الحد عنها إنما وقع لأنها لم تقر ، ولم تقم عليها بينة ; فعدم حدها لانتفاء مقتضيه ، لا لأنها صادقة كما ترى .
الأمر الثاني : ما رواه
أبو داود في سننه : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16544عثمان بن أبي شيبة ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16260طلق بن غنام ،
[ ص: 389 ] ثنا
عبد السلام بن حفص ، ثنا
أبو حازم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=31سهل بن سعد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009164أن رجلا أتاه ، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك ، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها ، اهـ منه ،
وعبد السلام المذكور في هذا الإسناد وثقه
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين ، وتوثيقه له أولى من قول
nindex.php?page=showalam&ids=11970أبي حاتم الرازي : إنه غير معروف ; لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ .
والحديث المذكور نص في أن المقر يقام عليه الحد وهو واضح ; لأن من أقر على نفسه بالزنا لا نزاع في وجوب الحد عليه ، وأما كونه يحد مع ذلك حد القذف فظاهر أيضا ، ويدل عليه عموم قوله تعالى :
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، الآية [ 24 \ 4 ] والأخذ بعموم النصوص واجب ، إلا بدليل مخصص يجب الرجوع إليه ، وكون حديث
nindex.php?page=showalam&ids=31سهل بن سعد الساعدي الذي ذكرناه آنفا عند
أبي داود ليس فيه أن النبي حد الرجل المذكور حد القذف ، بل حد الزنا فقط لا يعارض به عموم النصوص .
وقال
الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحده للزنا والقذف معا هو الظاهر ، لوجهين :
الأول : أن غاية ما في حديث
سهل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط ; لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط ، إلى أن قال : الوجه الثاني : أن ظاهر القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل ، وقد صدق على كل من كان كذلك أنه قاذف ، اهـ منه ، وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، وكذلك ما جاء في بعض روايات حديث
ماعز بن مالك أنه عين الجارية التي زنا بها ، ولم يحده النبي - صلى الله عليه وسلم - لقذفها بل حده للزنا فقط ، فإن ترك حده لم يوجه بما قدمنا قريبا .
وعلى كل حال فمن قال : زنيت بفلانة فلا شك أنه مقر على نفسه بالزنا ، وقاذف لها هي به ، وظاهر النصوص مؤاخذته بإقراره على نفسه ، وحده أيضا حد القذف ; لأنه قاذف بلا شك ، كما ترى .
ومما يؤيد هذا المذهب ما رواه
أبو داود في سننه : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى بن فارس ، ثنا
موسى بن هارون البردي ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17248هشام بن يوسف ، عن
القاسم بن فياض الأبناوي ،
[ ص: 390 ] عن
خلاد بن عبد الرحمن ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009165أن رجلا من بني بكر بن ليث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات ، فجلده مائة وكان بكرا ، ثم سأله البينة على المرأة ، فقالت : كذب والله يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلده حد الفرية ثمانين، اهـ .
فإن قيل : هذا الحديث ضعيف ، لأن في إسناده
القاسم بن فياض الأبناوي الصنعاني ، قال فيه
ابن حجر في التقريب : مجهول ، وقال فيه
الذهبي في " الميزان " : ضعفه غير واحد منهم
عباس عن
nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين ، فالجواب من وجهين :
الأول : أن
القاسم المذكور قال فيه
أبو داود : ثقة ، كما نقله عنه
الذهبي في الميزان ، والتعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل مجملا ، كما تقدم .
الثاني : أن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هذا الذي فيه الجمع بين حد القذف ، وحد الزنا إن قال : أنه زنى بامرأة عينها فأنكرت ، معتضد اعتضادا قويا بظواهر النصوص الدالة على مؤاخذته بإقراره ، والنصوص الدالة على أن من قذف امرأة بالزنى ، فأنكرت ولم يأت ببينة أنه يحد حد القذف .
فالحاصل : أن أظهر الأقوال عندنا أنه يحد حد القذف وحد الزنا ، وهو مذهب
مالك ، وقد نص عليه في المدونة خلافا لمن قال يحد حد الزنا فقط ،
كأحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، ولمن قال : يحد حد القذف فقط ، ويؤيد هذا المذهب الذي اخترناه في هذه المسألة ما قاله
مالك وأصحابه : من أن
الرجل لو قال لامرأة : زنيت ، فقالت له : زنيت بك أنها تحد للقذف وللزنا معا ، ولا يحد الرجل لهما لأنها صدقته ، والعلم عند الله تعالى .