المسألة الرابعة : اعلم أن من
ثبت عليه الزنا وهو محصن ، اختلف أهل العلم فيه ، فقال بعضهم : يجلد مائة جلدة أولا ثم يرجم بعد ذلك ، فيجمع له بين الجلد والرجم ، وقال بعضهم : يرجم فقط ولا يجلد ; لأن غير القتل يندرج في القتل ، وممن قال بالجمع بينهما
علي - رضي الله عنه - ، وهو إحدى الروايتين عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في
[ ص: 394 ] " المغني " : وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ،
وأبو ذر ، ذكر ذلك
عبد العزيز عنهما واختاره ، وبه قال الحسن ، وإسحاق ، وداود ، وابن المنذر ، وممن قال بأنه يرجم فقط ولا يجلد مع الرجم
مالك ،
وأبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي ، واختاره
أبو إسحاق ، الجوزجاني ،
nindex.php?page=showalam&ids=13665وأبو بكر الأثرم ، ونصراه في سننهما وهو رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وهو مروي عن
عمر ،
وعثمان ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ، قال ذلك كله
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في " المغني " ، وهذا القول الأخير الذي هو الاقتصار على الرجم عزاه
النووي في شرح
مسلم لجماهير العلماء .
وفي المسألة قول ثالث : وهو ما حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض ، عن طائفة من أهل الحديث ، وهو أنه يجب الجمع بينهما إذا
كان الزاني شيخا ثيبا فإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم .
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : يجمع للزاني المحصن بين الجلد والرجم ، فقد احتجوا بأدلة .
منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بالجمع بينهما للزاني المحصن تصريحا ثابتا عن ثبوت لا مطعن فيه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17342يحيى بن يحيى التميمي ، أخبرنا
هشيم ، عن
منصور ، عن
الحسن ، عن
حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007243خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ، وهذا تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن الثيب وهو المحصن يجلد مائة ويرجم ، وهذا اللفظ أخرجه
مسلم أيضا بإسناد آخر ، وفي لفظ في صحيح
مسلم " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009166الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة " ، وهو تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بينهما ، وفي لفظ عند
مسلم أيضا " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009167والثيب يجلد ويرجم " ، وهذه الروايات الثابتة في الصحيح فيها تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بين الجلد والرجم .
ومن أدلتهم على الجمع بينهما : أن
عليا - رضي الله عنه - جلد
شراحة الهمدانية يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا
آدم ، حدثنا
شعبة ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16024سلمة بن كهيل ،
[ ص: 395 ] قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي يحدث عن
علي - رضي الله عنه - ، حين رجم المرأة يوم الجمعة ، وقال : قد رجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انتهى منه .
وقال ابن حجر في " الفتح " في الكلام على هذا الحديث ، ما نصه في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16598علي بن الجعد : أن
عليا أتي بامرأة زنت فضربها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة إلى آخر ما ذكره من الروايات ، بأن
عليا ضربها ورجمها ، وهي
شراحة الهمدانية كما تقدم ، وفي رواية : أنها مولاة
لسعيد بن قيس ، ومن أدلتهم على الجمع بينهما أن الله تعالى قال :
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، واللفظ عام في البكر والمحصن ، ثم جاءت السنة بالرجم في حق المحصن والتغريب سنة في حق البكر ، فوجب الجمع بينهما عملا بدلالة الكتاب والسنة معا ، كما قال
علي - رضي الله عنه - ، قالوا : وقد شرع في كل من المحصن والثيب عقوبتان : أما عقوبتا الثيب : فهما الجلد والرجم ، وأما عقوبتا البكر : فهما الجلد والتغريب .
هذا هو حاصل ما احتج به الذين قالوا : إنه يجمع للمحصن بين الجلد والرجم .
وأما الذين قالوا : يرجم فقط ، ولا يجلد فاحتجوا بأدلة .
منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - رجم
ماعزا ، ولم يجلده مع الرجم ; لأن جميع الروايات في رجم ماعز بن مالك ليس في شيء منها أنه جلده مع الرجم بل ألفاظها كلها مقتصرة على الرجم ، قالوا : ولو كان الجلد مع الرجم لم ينسخ لأمر بجلد
ماعز مع الرجم ، ولو أمر به لنقله بعض رواة القصة ، قالوا : وقصة
ماعز متأخرة عن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي فيه التصريح بالجمع بينهما .
والدليل على أن حديث
عبادة متقدم وأنه أول نص نزل في حد الزنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007243خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث ، يشير بجعل الله لهن سبيلا بالحد ، إلى قوله تعالى :
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ 4 \ 15 ] ، فالزواني كن محبوسات في البيوت إلى أحد أمرين : وهما الموت ، أو جعل الله لهن سبيلا فلما قال - صلى الله عليه وسلم - " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009168قد جعل الله لهن سبيلا " ، ثم فسر السبيل بحد الزنا علمنا بذلك أن حديث عبادة أول نص في حد الزنا ، وأن قصة
ماعز متأخرة عن ذلك .
[ ص: 396 ] ومن أدلتهم أنه رجم الغامدية كما تقدم ، ولم يقل أحد أنه جلدها ، لو جلدها مع الرجم لنقل ذلك بعض الرواة .
ومن أدلتهم : أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008091واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، ولم يقل فاجلدها مع الرجم ، فدل ذلك على سقوط الجلد ; لأنه لو وقع لنقله بعض الرواة ، وهذه الوقائع كلها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت كما أشرنا إلى ما يقتضي ذلك آنفا .
ومن أدلتهم على أنه يرجم فقط ، ولا يجلد مع الرجم الروايات الصحيحة التي قدمناها في رجمه - صلى الله عليه وسلم - للمرأة الجهنية ،
والغامدية ، فإنها كلها مقتصرة على الرجم ، ولم يذكر فيها جلد . وقال
أبو داود : قال
الغساني : جهينة وغامد وبارق واحد ، انتهى منه ، وعليه فالجهنية هي الغامدية .
وعلى كل حال فجميع الروايات الواردة في رجم الغامدية ، ورجم الجهنية ليس في شيء منها ذكر الجلد ، وإنما فيها كلها الاقتصار على الرجم ، وكذلك قصة اليهوديين اللذين رجمهما - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها إلا الرجم ولم يذكر فيها جلد ، هذا هو حاصل ما احتج به أهل هذا القول .
وأما الذين قالوا : إن الجمع بين الرجم والجلد خاص بالشيخ والشيخة ، وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم فقط إن أحصن ، فقد احتجوا بلفظ الآية التي نسخت تلاوتها ، وهي قوله تعالى : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ) إلى آخره ، قالوا : فرجم الشيخ والشيخة ثبت بهذه الآية ، وإن نسخت تلاوتها فحكمها باق ، وقال
ابن حجر في " الفتح " : وقال
عياض : شذت فرقة من أهل الحديث ، فقالت :
الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب ، ولا أصل له . وقال
النووي : هو مذهب باطل كذا قاله ، ونفى أصله ، ووصفه بالبطلان إن أراد به طريقه فليس بجيد ; لأنه ثابت كما سأبينه في باب البكران يجلدان وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضا ; لأن الآية وردت بلفظ : ( الشيخ ) ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة فهو معنى مناسب ، وفيه جمع بين الأدلة فكيف يوصف بالبطلان ، انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .
وقد قال صاحب " فتح الباري " : إن هذا القول حكاه
ابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=13064وابن حزم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب زاد
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم وأبو ذر nindex.php?page=showalam&ids=13332وابن عبد البر ، عن
مسروق ، انتهى .
[ ص: 397 ] وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وحججهم ، فاعلم أن كل طائفة منهم ترجح قولها على قول الأخرى .
أما الذين قالوا : يجمع بين الجلد والرجم للمحصن ، فقد قالوا هذا القول ، هو أرجح الأقوال ، ولا ينبغي العدول عنه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن المحصن يجلد ويرجم بالحجارة ، فهو حديث صحيح صريح في محل النزاع ، فلا يعارض بعدم ذكر الجلد في قصة
ماعز ، والجهنية ،
والغامدية ، واليهوديين ; لأن ما صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعدل عنه بأمر محتمل ، ويجوز أن يكون الجلد وقع
لماعز ومن ذكر معه ولم يذكره الرواة ; لأن عدم ذكره لا يدل دلالة قطعية على عدم وقوعه ، لأن الراوي قد يتركه لظهوره ، وأنه معروف عند الناس جلد الزاني ، قالوا : والمحصن داخل قطعا في عموم
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، وهذا العموم القرآني لا يجوز العدول عنه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وعدم ذكر الجلد مع الرجم لا يعارض الأدلة الصريحة في القرآن ، والسنة الصحيحة ، قالوا : وعمل أمير المؤمنين
علي - رضي الله عنه - به بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه لم ينسخ ، ولم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكر عليه ذلك ، ولا تخفى قوة هذا الاستدلال الذي استدل به أهل هذا القول .
وأما الذين قالوا : بأن المحصن يرجم فقط ولا يجلد ، فقد رجحوا أدلتهم بأنها متأخرة عن حديث
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت ، الذي فيه التصريح بالجمع بين الرجم والجلد ، والعمل بالمتأخر أولى ، والحق أنها متأخرة عن حديث
عبادة المذكور ; كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009168قد جعل الله لهن سبيلا " ، فهو دليل على أن حديث
عبادة ، هو أول نص ورد في حد الزنا كما هو ظاهر من الغاية في قوله تعالى :
حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ 4 \ 15 ] ، قالوا : ومن أصرح الأدلة في أن الجمع بين الجلد والرجم منسوخ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009169والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله " ، وهذا قسم منه - صلى الله عليه وسلم - أنه يقضي بينهما بكتاب الله ، ثم قال في الحديث الذي أقسم على أنه قضاء بكتاب الله " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008091واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، قالوا : إن قوله " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009170فإن اعترفت " شرط ، وقوله " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009171فارجمها " جزاء هذا الشرط ، فدل الربط بين الشرط ، وجزائه على أن جزاء اعترافها هو الرجم وحده ، وأن ذلك قضاء بكتاب الله تعالى .
[ ص: 398 ] وهذا دليل من لفظ النبي الصريح على أن جزاء اعترافها بالزنا هو رجمها فقط ، فربط هذا الجزاء بهذا الشرط أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضاء بكتاب الله وهو متأخر عن حديث
عبادة ، لما قدمنا .
وهذا الدليل أيضا قوي جدا ، لأن فيه إقسامه - صلى الله عليه وسلم - بأن الاعتراف بالزنا من المحصن يترتب عليه الرجم ، ولا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين : إما أن يكون - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على قوله " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009171فارجمها " ، أو يكون قال مع ذلك فاجلدها ، وترك الراوي الجلد ، فإن كان قد اقتصر على الرجم ، فذلك يدل على نسخ الجلد ; لأنه جعل جزاء الاعتراف الرجم وحده ; لأن ربط الجزاء بالشرط يدل على ذلك دلالة لفظية لا دلالة سكوت ، وإن كان قال مع الرجم : واجلدها ، وحذف الراوي الجلد ، فإن هذا النوع من الحذف ممنوع ; لأن حذف بعض جزاء الشرط مخل بالمعنى موهم غير المراد ، والحذف إن كان كذلك فهو ممنوع ، ولا يجوز للراوي أن يفعله والراوي عدل فلن يفعله .
وقد أوضحنا في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله :
قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ 6 \ 145 ] ، أنه لا تعارض بين نصين ، مع اختلاف زمنهما ; كما هو التحقيق .
وأما القول الثالث وهو الفرق بين الشيخ والشاب ، وإن وجهه
ابن حجر بما ذكرنا ، لا يخفى سقوطه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : دليل كل منهما قوي ، وأقربهما عندي : أنه يرجم فقط ، ولا يجلد مع الرجم لأمور :
منها : أنه قول جمهور أهل العلم ، ومنها : أن روايات الاقتصار على الرجم في قصة
ماعز ، والجهنية ،
والغامدية ، واليهوديين ، كلها متأخرة بلا شك عن حديث
عبادة ، وقد يبعد أن يكون في كل منها الجلد مع الرجم ، ولم يذكره أحد من الرواة مع تعدد طرقها .
ومنها : أن قوله الثابت في الصحيح " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008091واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن جزاء اعترافها رجمها ، والذي يوجد بالشرط هو الجزاء ، وهو في الحديث الرجم فقط .
ومنها : أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرجم على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .
[ ص: 399 ] ومنها : أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة ، والعلم عند الله تعالى .
قال بعضهم : ويؤيده من جهة المعنى أن القتل بالرجم أعظم العقوبات فليس فوقه عقوبة ، فلا داعي للجلد معه ; لاندراج الأصغر في الأكبر .