مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة
اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز
نكاح العفيف الزانية ، ونكاح العفيفة الزاني ، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند
مالك وأصحابه ، ومن وافقهم ، واحتج أهل هذا القول بأدلة :
منها عموم قوله تعالى :
وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة ، وعموم قوله تعالى :
وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وهو شامل بعمومه الزانية أيضا والعفيفة .
ومن أدلتهم على ذلك : حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009192أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، قال " : غربها " ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ؟ قال " : فاستمتع بها " ، قال
ابن حجر في " بلوغ المرام " في هذا الحديث بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا : رواه
أبو داود ، والترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13863والبزار ورجاله ثقات ، وأخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي من وجه آخر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ قال " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009193طلقها " ، قال : لا أصبر عنها ، قال " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009194فأمسكها " ، اهـ ، من " بلوغ المرام " ، وفيه تصريح
ابن حجر بأن رجاله ثقات ، وبه تعلم أن ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر ، وقد ذكره في الموضوعات مرسلا عن
أبي الزبير ، قال : أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي . . . الحديث ، ورواه أيضا مرسلا عن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير ،
nindex.php?page=showalam&ids=15714وحسان بن عطية كلاهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : وقد حمله
nindex.php?page=showalam&ids=12706أبو بكر الخلال على الفجور ، ولا يجوز هذا ; وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صح الحديث .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس له أصل ، انتهى
[ ص: 419 ] من موضوعات
nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي ، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة .
وقال
الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة ، عن عدم العفة عن الزنى ، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، اهـ ، وما قاله
الشوكاني وغيره هو الظاهر ; لأن لفظ : لا ترد يد لامس أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحل كما لا يخفى ، فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر ; لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر ، كما ترى .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها ، وهي تحت زوج ، وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه ، وبين المسألتين فرق ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .
ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها ، وهي قوله تعالى :
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية [ 24 \ 3 ] من وجهين :
الأول : أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه ، قالوا : والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدة التنفير منه ; لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة .
وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى :
وحرم ذلك على المؤمنين راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه ، كعكسه ، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك .
الوجه الثاني : هو قولهم : إن المراد بالنكاح في الآية التزويج ، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى :
الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، منسوخة بقوله تعالى :
وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وممن ذهب إلى نسخها بها :
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وقال
ابن كثير في تفسير هذه الآية ، ما نصه : هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية ، أو مشركة ، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة
[ ص: 420 ] لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان ، أي : عاص بزناه ، أو مشرك لا يعتقد تحريمه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري عن
حبيب بن أبي عمرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - :
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال : ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك ، وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا ، وقد روي عن
مجاهد وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ،
والضحاك ،
ومكحول ،
nindex.php?page=showalam&ids=17132ومقاتل بن حيان ، وغير واحد نحو ذلك ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية : الجماع ، لا التزويج ، وذكر صحته عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أن يعلمه تأويل القرآن ، وعزاه لمن ذكر معه من أجلاء المفسرين ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس - رضي الله عنهما - من أعلم الصحابة بتفسير القرآن العظيم ، ولا شك في علمه باللغة العربية .
فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدل على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح ، فدعوى أن هذا التفسير لا يصح في العربية ، وأنه قبيح ، يرده قول البحر
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، كما ترى .
وقال
القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وأصحابه ، أن النكاح في هذه الآية : الوطء .
واعلم أن إنكار
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج لهذا القول في هذه الآية ، أعني القول بأن النكاح فيها الجماع ، وقوله : إن النكاح لا يعرف في القرآن ، إلا بمعنى التزويج ، مردود من وجهين :
الأول : أن القرآن جاء فيه النكاح بمعنى الوطء ، وذلك في قوله تعالى :
فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر قوله :
حتى تنكح زوجا غيره بأن معنى نكاحها له مجامعته لها ، حيث قال " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007244لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، ومراده بذوق العسيلة : الجماع ، كما هو معلوم .
الوجه الثاني : أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، يطلقون النكاح على الوطء .
[ ص: 421 ] وقد يكون العقد ، اهـ ، وإنما سموا عقد التزويج نكاحا ; لأنه سبب النكاح أي الوطء ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه معروف في القرآن ، وفي كلام العرب ، وهو مما يسميه القائلون بالمجاز ، المجاز المرسل ، كما هو معلوم عندهم في محله ، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء ، قول
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق
لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج ، إذ لا يعقد على المسبيات ، وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر ، ومنه قوله أيضا :
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله
فالمراد بالنكاح في هذا البيت هو الوطء بملك اليمين لا العقد ; كما صرح بذلك بقوله : ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله .
وقوله :
إذا سقى الله قوما صوب غادية فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطي دجلة البقرا
ومعلوم أن نكاح البقر ليس معناه التزويج .
قالوا : ومما يدل على أن النكاح في الآية غير التزويج ، أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حد المتزوج بزانية ; لأنه زان ، والزاني يجب حده ، وقد أجمع العلماء على أن من تزوج زانية لا يحد حد الزنى ، ولو كان زانيا لحد حد الزنى ، فافهم ، هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء ، وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام ، كعكسه .