المسألة الثانية : اعلم أن المقرر في أصول المالكية ، والشافعية والحنابلة أن
الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات ، أو مفردات متعاطفات ، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها ، خلافا
لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :
وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع والحق الافتراق دون الجمع
ولذا لو
قال إنسان : هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين ، وبني زهرة ، وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع ، خلافا
لأبي حنيفة القائل برجوعه للأخيرة ، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط ، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية ، إلا لجملة الأخيرة التي هي :
وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فقد زال عنهم الفسق ، ولا يقول : ولا تقبلوا لهم شهادة
[ ص: 432 ] أبدا إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : إن
شهادة القاذف لا تقبل أبدا ، ولو تاب وأصلح ، وصار أعدل أهل زمانه لرجوع الاستثناء عنده للجملة الأخيرة .
وممن قال كقول
أبي حنيفة من أهل العلم :
القاضي شريح ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
ومكحول ،
وعبد الرحمن بن زيد بن جابر ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب ، قاله
ابن كثير .
وقال جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة : إن الاستثناء في الآية راجع أيضا لقوله :
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأن القاذف إذا تاب وأصلح ، قبلت شهادته ، أما قوله :
فاجلدوهم ثمانين جلدة فلا يرجع له الاستثناء ; لأن
القاذف إذا تاب وأصلح ، لا يسقط عنه حد القذف بالتوبة .
فتحصل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله :
وأولئك هم الفاسقون يرجع لها الاستثناء بلا خلاف ، وأن الجملة الأولى التي هي :
فاجلدوهم ثمانين جلدة لا يرجع لها الاستثناء في قول عامة أهل العلم ، ولم يخالف إلا من شذ ، وأن الجملة الوسطى ، وهي قوله :
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة خلافا
لأبي حنيفة ، وقد ذكرنا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخرين ،
كابن الحاجب من المالكية ،
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي من الشافعية ،
nindex.php?page=showalam&ids=14552والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع ، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل .
وإنما قلنا : إن هذا هو الأظهر; لأن الله تعالى يقول :
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .
وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى الله وجدنا القرآن دالا على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا ، وهو الوقف ، وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى ، وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة ، فدل ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئا مطردا .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] ، فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط ; لأن المطالبة بها تسقط
[ ص: 433 ] بتصدق مستحقها بها ، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعا ، لأن
تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ .
ومن أمثلة ذلك آية " النور " هذه ؛ لأن الاستثناء في قوله :
إلا الذين تابوا لا يرجع لقوله :
فاجلدوهم ثمانين جلدة كما ذكرناه آنفا .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :
فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 90 ] ، فالاستثناء في قوله :
إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق لا يرجع إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل المذكورة إليه ، أعني قوله تعالى :
ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهذا لا خلاف فيه بل الاستثناء راجع إلى الجملتين الأوليين ، أعني قوله تعالى :
فخذوهم واقتلوهم [ 4 \ 89 ] ، أي : فخذوهم بالأسر ، واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فليس لكم أخذهم بأسر ، ولا قتلهم ; لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم ، وقتلهم كما اشترطه
هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن هذه الآية نزلت فيه ، وفي
سراقة بن مالك المدلجي ، وفي
بني جذيمة بن عامر ، وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع إلى أقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه لم يلزم رجوعه للجميع ، ولا إلى الأخيرة ، وأن الأظهر الوقف حتى يعلم ما يرجع إليه من المتعاطفات قبله بدليل ، ولا يبعد أنه إن تجرد من القرائن والأدلة ، كان ظاهرا في رجوعه للجميع .
وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، ولذلك اختصرناه هنا ، والعلم عند الله تعالى .