المسألة الخامسة : اعلم أن العلماء أجمعوا على أنه إذا
صرح في قذفه له بالزنى ، كان قذفا ورميا موجبا للحد ، وأما إن عرض ولم يصرح بالقذف ، وكان تعريضه يفهم منه بالقرائن أنه يقصد قذفه ; كقوله : أما أنا فلست بزان ، ولا أمي بزانية ، أو ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنى ، أو يا حلال ابن الحلال ، أو نحو ذلك .
فقد اختلف أهل العلم : هل يلزم
القذف بالتعريض المفهم للقذف ، وإن لم يصرح ، أو لا يحد حتى يصرح بالقذف تصريحا واضحا لا احتمال فيه ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التعريض لا يوجب الحد ، ولو فهم منه إرادة القذف ، إلا أن يقر أنه أراد به القذف .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في " المغني " : وهذا القول هو رواية
حنبل عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وهو ظاهر كلام
الخرقي ، واختيار
أبي بكر ، وبه قال
عطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار ،
وقتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ،
وابن المنذر ، واحتج أهل هذا القول بكتاب وسنة .
أما الكتاب فقوله تعالى :
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ 2 \ 235 ] ، ففرق تعالى بين التصريح للمعتدة والتعريض ، قالوا : ولم يفرق الله بينهما في كتابه ، إلا لأن بينهما فرقا ، ولو كانا سواء لم يفرق بينهما في كتابه .
وأما السنة : فالحديث المتفق عليه الذي قدمناه مرارا في الرجل الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له : إن امرأتي ولدت غلاما أسود وهو تعريض بنفيه ، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قذفا ، ولم يدعهما للعان بل قال للرجل " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009203ألك إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : فما ألوانها " ؟ [ ص: 436 ] قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءها ذلك " ؟ قال : لعل عرقا نزعه ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه " ، قالوا : ولأن التعريض محتمل لمعنى آخر غير القذف ، وكل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا ، هذا هو حاصل حجة من قالوا بأن التعريض بالقذف ، لا يوجب الحد ، وإنما يجب الحد بالتصريح بالقذف .
وذهبت جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن التعريض بالقذف يجب به الحد ، وهو مذهب
مالك وأصحابه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في " المغني " : وروى
الأثرم وغيره ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد أن عليه الحد ، يعني المعرض بالقذف ، قال : وروي ذلك عن
عمر - رضي الله عنه - وبه قال
إسحاق إلى أن قال : وقال
معمر : إن
عمر كان يجلد الحد في التعريض ، اهـ .
واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما ذكره
القرطبي ، قال : والدليل لما قاله
مالك : هو أن موضوع
الحد في القذف ، إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، وإذا حصلت المعرة بالتعريض ، وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم ، وقد قال تعالى مخبرا عن قوم
شعيب أنهم قالوا له :
إنك لأنت الحليم الرشيد [ 11 \ 87 ] ، أي : السفيه الضال ، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسب ما تقدم في سورة " هود " ، وقال تعالى في
أبي جهل :
ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 49 ] ، وقال تعالى في الذين قذفوا
مريم أنهم قالوا :
ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، فمدحوا أباها ، ونفوا عن أمها البغاء ، أي : الزنى وعرضوا
لمريم بذلك ، ولذلك قال تعالى :
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها ، أي :
ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا أي : أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد ، وقال تعالى :
قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ 34 \ 24 ] ، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهدى ، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه ، اهـ محل الغرض من كلام
القرطبي مع تصرف قليل لإيضاح المراد .
وحاصل كلام
القرطبي المذكور : أن من أدلة القائلين بوجوب الحد بالتعريض آيات قرآنية ، وبين وجه دلالتها على ذلك كما رأيته ، وذكر أن من أدلتهم أن المعرة اللاحقة
[ ص: 437 ] للمقذوف صريحا تلحقه بالتعريض له بالقذف ، ولذلك يلزم استواؤهما ، وذكر أن من أدلتهم أن المعول على الفهم ، والتعريض يفهم منه القذف فيلزم أن يكون كالصريح .
ومن أدلتهم على أن التعريض يجب به الحد بعض الآثار المروية عن بعض الخلفاء الراشدين ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة في " المغني " : لأن
عمر - رضي الله عنه - حين شاورهم في الذي قال لصاحبه : ما أنا بزان ، ولا أمي بزانية ، فقالوا : قد مدح أباه وأمه ، فقال
عمر : قد عرض بصاحبه وجلده الحد ، وقال
معمر : إن
عمر كان يجلد الحد في التعريض ، وروى
الأثرم : أن
عثمان - رضي الله عنه - جلد رجلا قال لآخر : يا ابن شامة الوذر ، يعرض له بزنى أمه ، والوذر : غدر اللحم يعرض له بكمر الرجال ، وانظر أسانيد هذه الآثار .
ومن أدلة أهل هذا القول أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها ، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية ، فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف ، فلا شك في أنه لا يكون قذفا ، انتهى من " المغني " .
ثم قال صاحب المغني : وذكر
أبو بكر عبد العزيز : أن
أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض ، يعني
nindex.php?page=showalam&ids=12251بأبي عبد الله الإمام أحمد - رحمه الله - وقال
القرطبي : وقد حبس
عمر - رضي الله عنه -
الحطيئة ، لما قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
.
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير ، ومنه قول
الحطيئة أو
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي :
قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فإنه يروى أن
عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح ، وقال : ليت آل
الخطاب كانوا كذلك ، ولما قال الشاعر بعد ذلك :
ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل
قال
عمر أيضا : ليت آل
الخطاب كانوا كذلك ، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح ، ولذا ذكروا أن
عمر تمنى ما فيه من الهجاء لأهل بيته ; لأنه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا
[ ص: 438 ] نزاع ، ويدل على ذلك أول شعره وآخره ، لأن أول الأبيات قوله :
إذا الله عادى أهل لؤم وذلة فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يخفرون . . . . . . البيت
وفي آخر شعره :
وما سمي العجلان إلا لقوله خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
وكون مثل هذا من التعريض بالذم لا شك فيه ، وقول
الحطيئة :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
يهجو به
الزبرقان بن بدر التميمي ، كما ذكره بعض المؤرخين ، وما ذكره
القرطبي - رحمه الله - في الكلام الذي نقلنا عنه من أن البهتان العظيم الذي قالوه على
مريم : هو تعريضهم لها بقولهم :
ما كان أبوك امرأ سوء الآية [ 19 \ 28 ] ، لا يتعين بانفراده ; لأن الله - جل وعلا - ذكر عنهم أنهم قالوا لها غير ذلك وهو أقرب للتصريح بالفاحشة مما ذكره
القرطبي ، وذلك في قوله تعالى :
فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، فقولهم لها :
لقد جئت شيئا فريا في وقت مجيئها بالولد تحمله ظاهر جدا في إرادتهم قذفها ، كما ترى ، والكلام الذي ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13439ابن قدامة : أن
عثمان جلد الحد فيه وهو قول الرجل لصاحبه : يا ابن شامة الوذر ، قال فيه
الجوهري في صحاحه : الوذرة بالتسكين الغدرة ، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة ، ومنه قولهم : يا ابن شامة الوذرة ، وهي كلمة قذف ، وكانت العرب تتساب بها ، كما كانت تتساب بقولهم : يا ابن ملقي أرحل الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ونحوها ، والجمع وذر مثل : تمرة وتمر ، اهـ من صحاح
الجوهري .
والشامة بتشديد الميم اسم فاعل شمه ، وقال صاحب " اللسان " : وفي حديث
عثمان - رضي الله عنه - أنه رفع إليه رجل قال لرجل : يا ابن شامة الوذر ، فحده ، وهو من سباب العرب وذمهم ، وإنما أراد يا ابن شامة المذاكير يعنون الزنا ، كأنها كانت تشم كمرا مختلفة فكنى عنه ، والذكر قطعة من بدن صاحبه ، وقيل : أرادوا بها القلف جمع قلفة الذكر ; لأنها تقطع ، انتهى محل الغرض من " لسان العرب " ، وهذا لا يتضح منه قصد الزنا ولم أر من
[ ص: 439 ] أوضح معنى شامة الوذر إيضاحا شافيا ; لأن شم كمر الرجال ليس من الأمر المعهود الواضح .
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن قائل الكلام المذكور يشبه من عرض لها بالزنا بسفاد الحيوانات ; لأن الذكر من غالب الحيوانات إذا أراد سفاد الأنثى شم فرجها ، واستنشق ريحه استنشاقا شديدا ، ثم بعد ذلك ينزو عليها فيسافدها فكأنهم يزعمون أن المرأة تشم ذكر الرجل كما يشم الفحل من الحيوانات فرج أنثاه ، وشمها لمذاكير الرجال كأنه مقدمة للمواقعة ، فكنوا عن المواقعة بشم المذاكير ، وعبروا عن ذكر الرجل بالوذرة ; لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم ، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر ، حتى صارت كأنها تشم ريح ذلك الموضع ، والعلم عند الله تعالى .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم ، وحججهم في التعريض بالقذف ، هل يلزم به الحد أو لا يلزم به .
وأظهر القولين عندي : أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف فهما واضحا من القرائن أن صاحبه يحد ; لأن الجناية على عرض المسلم تتحقق بكل ما يفهم منه ذلك فهما واضحا ، ولئلا يتذرع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا ، والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم : إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض ، والعلم عند الله تعالى .