المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللعان المذكورة في قوله :
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ 24 \ 6 ] إلى آخر الآيات ، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال :
الأول : أنها شهادات ; لأن الله سماها في الآية شهادات .
والثاني : أنها أيمان .
والثالث : أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة .
والرابع : عكسه ، وينبني على الخلاف في ذلك أن من قال : إنها شهادات لا يصح عنده اللعان ، إلا ممن تجوز شهادته ، فيشترط في الملاعن والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة ، ومن قال : إنها أيمان صح عنده اللعان من كل زوجين ، ولو كانا لا تصح شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة ، وينبني على الخلاف المذكور ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول ، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود ، فيجب عليها حد الزنى ، وعلى أنها أيمان يحد الثلاثة ويلاعن الزوج ، وقيل : لا يحدون ، وممن قال : بأنها شهادات وأن اللعان لا يصح إلا ممن تقبل شهادته ، وأنها تحد بشهادة الثلاثة مع الزوج
أبو حنيفة - رحمه الله - ومن تبعه ، والأكثرون على أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنها أيمان مؤكدة بالشهادة ، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرآن ، مرادا بها اليمين ، مع دلالة القرائن على ذلك ، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور :
الأول : التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله :
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ ص: 467 ] لأن لفظة بالله يمين فدل قوله : بالله على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنص اليمين ، فقوله : أشهد بالله في معنى : أقسم بالله .
الثاني : أن القرآن جاء فيه إطلاق الشهادة وإرادة اليمين في قوله :
فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما [ 5 \ 107 ] ، ثم بين أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله :
ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ 5 \ 108 ] ، فقوله :
أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين ، وهو واضح كما ترى .
وقال
القرطبي : ومنه قوله تعالى :
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية [ 63 \ 1 ] ; لأن قوله تعالى :
اتخذوا أيمانهم جنة [ 63 \ 2 ] ، يدل على أن المراد بشهادتهم الأيمان ، هكذا قال ، ولا يتعين عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .
الثالث : ما قاله
ابن العربي ، قال : والفيصل أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل ، معدوم في النظر ، اهـ منه بواسطة نقل
القرطبي .
وحاصل استدلاله هذا : أن استقراء الشريعة استقراء تاما يدل على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكما على غيره ، وهو استدلال قوي ; لأن المقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة ; كما أوضحناه مرارا ، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متهم لا يسوغ شهادته لنفسه ; لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقا .
الرابع : ما جاء في بعض روايات
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009214حديث اللعان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيها بالذي رميت به " : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " ، عند
أحمد وأبي داود ، وقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية شهادات اللعان أيمانا ، وفي إسناد الرواية المذكورة
nindex.php?page=showalam&ids=16292عباد بن منصور ، تكلم فيه غير واحد ، ويقال : إنه كان قدريا إلى غير ذلك من أدلتهم .
وأما الذين قالوا : إنها شهادات لا أيمان ، فاحتجوا بأن الله سماها شهادات في قوله :
[ ص: 468 ] ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وفي قوله :
فشهادة أحدهم أربع شهادات الآية ، وقوله :
ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الآية ، واستدلوا أيضا بحديث " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009215أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، اهـ ، قالوا : إنما منع لعان
اليهودية والنصرانية والعبد والأمة ؛ لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم ، ولو كانت شهادات اللعان أيمانا لصح لعانهم ; لأنهم ممن تقبل يمينه ، وقال
الزيلعي في " نصب الراية " ، في الحديث المذكور : قلت : أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه في سننه عن
ابن عطاء ، عن أبيه
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009216أربع من النساء لا ملاعنة بينهن وبين أزواجهن : النصرانية تحت المسلم ، واليهودية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، انتهى .
وأخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في سننه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16551عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب به ، وقال : عن جده
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو مرفوعا " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009217أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان ، وليس بين العبد والحرة لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان " ، انتهى ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني :
والوقاصي متروك الحديث ، ثم أخرجه عن
عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب به ، قال :
وعثمان بن عطاء الخراساني ضعيف الحديث جدا ، وتابعه
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع عن
عطاء وهو ضعيف أيضا ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج وهما إمامان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قوله ، ولم يرفعاه ، ثم أخرجه كذلك موقوفا ، ثم أخرجه عن
عمار بن مطر ، ثنا
حماد بن عمرو ، عن
زيد بن رفيع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009218أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عتاب بن أسيد " : ألا لعان بين أربع " فذكر نحوه ، قال :
وعمار بن مطر ،
وحماد بن عمرو ،
وزيد بن رفيع ضعفاء ، انتهى ، وقال
البيهقي في " المعرفة " : هذا حديث رواه
عثمان بن عطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=17360ويزيد بن زريع الرملي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009219أربعة لا ملاعنة بينهم : النصرانية تحت المسلم " إلى آخره ، قال :
nindex.php?page=showalam&ids=16566وعطاء الخراساني معروف بكثرة الغلط ، وابنه
عثمان nindex.php?page=showalam&ids=17360وابن زريع ضعيفان ، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16551عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب به ، وهو متروك الحديث ضعفه
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين وغيره من الأئمة ، ورواه
عمار بن مطر ، عن
حماد بن عمرو ، عن
زيد بن رفيع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ،
وعمار بن مطر ،
وحماد بن عمرو ،
وزيد بن رفيع ضعفاء .
[ ص: 469 ] وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي ، وهما إمامان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده موقوفا ، وفي ثبوته موقوفا أيضا نظر ، فإن راويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي عمرو بن هارون ، وليس بالقوي ، ورواه
يحيى بن أبي أنيسة أيضا ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب به موقوفا ، وهو متروك ، ونحن إنما نحتج بروايات
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، إذا كان الراوي عنه ثقة وانضم إليه ما يؤكده ، ولم نجد لهذا الحديث طريقا صحيحا إلى
عمرو ، والله أعلم ، انتهى كلامه ، انتهى كلام صاحب " نصب الراية " .
وقال صاحب " الجوهر النقي " : إن الحديث المذكور جيد الإسناد ، ولو فرضنا جودة إسناده كما ذكره لم يلزم من ذلك أن شهادات اللعان شهادات لا أيمان ; لاحتمال كون عدم الملاعنة من بين من ذكر في الحديث لعدم المكافأة .
والأظهر عندنا أنها أيمان أكدت بلفظ الشهادة ، للأدلة التي ذكرنا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، والعلم عند الله تعالى .