تنبيهان
الأول : اعلم أنه على القول بأن الواو عاطفة فإن إعراب جملة " يقولون " مستشكل من ثلاث جهات :
الأولى أنها حال من المعطوف وهو الراسخون ، دون المعطوف عليه وهو لفظ الجلالة . والمعروف إتيان الحال من المعطوف والمعطوف عليه معا كقولك : جاء زيد وعمرو راكبين .
وقوله تعالى :
وسخر لكم الشمس والقمر دائبين [ 14 \ 33 ] .
وهذا الإشكال ساقط ; لجواز إتيان الحال من المعطوف فقط دون المعطوف عليه ، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى :
وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، فقوله صفا حال من المعطوف وهو الملك ، دون المعطوف عليه وهو لفظة : ربك . وقوله تعالى :
والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية [ 59 \ 10 ] ، فجملة يقولون حال من واو الفاعل في قوله : الذين جاءوا ، وهو معطوف على قوله :
للفقراء المهاجرين [ 59 \ 8 ] ، وقوله :
والذين تبوءوا الدار والإيمان [ 59 \ 9 ] ، فهو حال من المعطوف دون المعطوف عليه كما بينه
ابن كثير وغيره .
الجهة الثانية من جهات الإشكال المذكورة هي ما ذكره
القرطبي عن
الخطابي قال عنه : واحتج له بعض أهل اللغة ، فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين :
[ ص: 195 ] آمنا ، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ; لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكبا يعني : أقبل عبد الله راكبا ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالا له كقول الشاعر أنشدنيه
أبو عمر قال : أنشدنا
nindex.php?page=showalam&ids=15611أبو العباس ثعلب :
[ الرجز ]
أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا
أي يقصر ماشيا وهذا الإشكال أيضا ساقط ; لأن الفعل العامل في الحال المذكورة غير مضمر ; لأنه مذكور في قوله يعلم ولكن الحال من المعطوف دون المعطوف عليه ، كما بينه العلامة
الشوكاني في " تفسيره " وهو واضح .
الجهة الثالثة من جهات الإشكال المذكورة هي : أن
المعروف في اللغة العربية أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها ، فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو يعلم بهذه الحال التي هي
يقولون آمنا ; إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم
آمنا به ; لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم
آمنا به لا يعلمون تأويله وهو باطل ، وهذا الإشكال قوي وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف .
التنبيه الثاني : إذا كانت جملة يقولون : لا يصح أن تكون حالا لما ذكرنا فما وجه إعرابها على القول بأن الواو عاطفة . الجواب : والله تعالى أعلم أنها معطوفة بحرف محذوف والعطف بالحرف المحذوف ، أجازه
ابن مالك وجماعة من علماء العربية . والتحقيق جوازه ، وأنه ليس مختصا بضرورة الشعر كما زعمه بعض علماء العربية ، والدليل على جوازه وقوعه في القرآن ، وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى :
وجوه يومئذ ناعمة الآية [ 88 \ 8 ] ، فإنه معطوف بلا شك على قوله تعالى :
وجوه يومئذ خاشعة [ 88 ] ، بالحرف المحذوف الذي هو الواو ويدل له إثبات الواو في نظيره في قوله تعالى في سورة " القيامة " :
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة الآية [ 22 ، 24 ] ، وقوله تعالى في " عبس " :
وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة الآية [ 40 \ 38 ] .
وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى :
ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت [ ص: 196 ] الآية [ 9 \ 92 ] ، قال : يعني وقلت : بالعطف بواو محذوفة وهو أحد احتمالات ذكرها
ابن هشام في [ المغني ] ، وجعل بعضهم منه :
إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، على قراءة فتح همزة إن قال : هو معطوف بحرف محذوف على قوله :
شهد الله أنه لا إله إلا هو [ 3 \ 18 ] ، أي : وشهد أن الدين عند الله الإسلام وهو أحد احتمالات ذكرها صاحب " المغني " أيضا ومنه حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007233تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره " يعني ومن درهمه ومن صاع إلخ .
حكاه
الأشموني وغيره ، والحديث المذكور أخرجه
مسلم ، والإمام
أحمد ، وأصحاب السنن ومن شواهد حذف حرف العطف قول الشاعر :
[ الخفيف ]
كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد الكريم
يعني : وكيف أمسيت وقول
الحطيئة : [ البسيط ] إن امرأ رهطه
بالشام منزله برمل يبرين جار شد ما اغتربا
أي : ومنزله برمل يبرين .
وقيل : الجملة الثانية صفة ثانية لا معطوفة وعليه فلا شاهد في البيت ، وممن أجاز العطف بالحرف المحذوف
الفارسي وابن عصفور خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=13042لابن جني والسهيلي .
ولا شك أن في القرآن أشياء لا يعلمها إلا الله كحقيقة الروح ; لأن الله تعالى يقول :
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الآية [ 17 \ 85 ] ، وكمفاتح الغيب التي نص على أنها لا يعلمها إلا هو بقوله :
وعنده مفاتح الغيب الآية [ 6 \ 59 ] .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى :
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية [ 31 ] . وكالحروف المقطعة في أوائل السور وكنعيم الجنة لقوله تعالى :
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 32 \ 17 ] ، وفيه أشياء يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم كقوله تعالى :
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 94 ] ، وقوله :
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، مع قوله :
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، وقوله :
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وكقوله :
وروح منه [ 4 \ 171 ] ، والرسوخ والثبوت . ومنه قول الشاعر :
[ الطويل ]
[ ص: 197 ] لقد رسخت في القلب مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا