قوله تعالى :
ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا . من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية ، هو
عقبة بن أبي معيط ، وأن فلانا الذي أضله عن الذكر
أمية بن خلف ، أو أخوه
أبي بن خلف ، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة . ليتني لم أتخذ
أبيا خليلا ، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير ، لا القراءة ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر ، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى
لابن أبي معيط .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحا في غيرها . فقوله :
ويوم يعض الظالم على يديه كناية عن شدة الندم والحسرة ، لأن النادم ندما شديدا ، يعض على يديه ، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى في سورة
يونس :
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط الآية [ 10 \ 54 ] وقوله تعالى في سورة سبأ :
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا الآية [ 34 \ 33 ] وقوله تعالى :
قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 6 \ 31 ] . والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى :
كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا ، واتخذ معه سبيلا : أي طريقا إلى الجنة في قوله هنا :
يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى :
يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول [ 33 \ 66 ] وقوله تعالى :
يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 24 ] وقوله تعالى :
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ 15 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 46 ] والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية ، ذكرت أيضا في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان :
قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] وقوله تعالى :
إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا [ 76 \ 29 و 33 \ 19 ] في المزمل والإنسان ، ويقرب من معناه المآب المذكور في قوله تعالى :
ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا [ 78 \ 39 ] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل ، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلا ، ذكره في غير هذا الموضع ، أما دعاء الكفار بالويل : فقد تقدم في قوله تعالى :
وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 13 - 14 ] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم ، فقد ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى :
وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 176 ] فلفظة لو في قوله
لو أن لنا كرة للتمني ، ولذلك نصب الفعل المضارع بعد الفاء في قوله
فنتبرأ منهم الآية . وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم ، وطاعتهم في الدنيا ، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن ، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى :
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] وقوله تعالى :
وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم الآية [ 41 \ 25 ] وقوله تعالى : :
ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس الآية [ 6 \ 128 ] ; وقوله تعالى :
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] وقوله تعالى :
حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] وقوله تعالى :
ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين الآية [ 34 \ 31 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى هنا :
وكان الشيطان للإنسان خذولا الأظهر أنه من كلام الله ، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة ، والخذول صيغة مبالغة ، والعرب تقول : خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه ، ومنه قوله تعالى :
وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [ 3 \ 160 ] وقول الشاعر :
[ ص: 47 ] إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا
وقول الآخر :
إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا
ومن الآيات الدالة على أن
الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى :
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى :
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون الآية [ 8 \ 48 ] . وقوله تعالى في هذه الآية :
لقد أضلني عن الذكر الأظهر أن الذكر القرآن ، وقوله :
لم أتخذ فلانا العرب تطلق لفظة فلان كناية عن العلم : أي لم أتخذ
أبيا أو
أمية خليلا ، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ، ومنه قول
عروة بن حزام العذري :
ألا قاتل الله الوشاة وقولهم فلانة أضحت خلة لفلان
وقوله :
يعض الظالم من عضض بكسر العين في الماضي ، يعض بفتحها في المضارع على القياس ، ومنه قول
الحارث بن وعلة الدهلي :
الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابي على جذم
فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي ، والكسر أشهر ، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت
الحارث بن وعلة المذكورين ، وربما عديت بالباء ومنه قول
ابن أبي ربيعة :
فقالت وعضت بالبنان فضحتني وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء قد يدخل قرينه النار ، والتحذير من قرين السوء مشهور معروف ، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات أن رجلا من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار ، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار ، وذلك في قوله تعالى :
قال قائل منهم إنى كان لي [ ص: 48 ] قرين يقول أئنك لمن المصدقين إلى قوله تعالى :
فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين [ 37 \ 51 - 57 ] .