قوله تعالى : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين . أي : قال
موسى مجيبا
لفرعون :
قال فعلتها إذا ، أي : إذ فعلتها وأنا في ذلك الحين
من الضالين ، أي : قبل أن يوحي الله إلي ، ويبعثني رسولا ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في معنى الآية .
وقول من قال من أهل العلم :
وأنا من الضالين ، أي : من الجاهلين ، راجع إلى ما ذكرنا ; لأنه بالنسبة إلى ما علمه الله من الوحي يعتبر قبله جاهلا ، أي : غير عالم بما أوحى الله إليه .
وقد بينا مرارا في هذا الكتاب المبارك أن
لفظ الضلال يطلق في القرآن ، وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات : الإطلاق الأول : يطلق الضلال مرادا به الذهاب عن حقيقة الشيء ، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شيء ضل عنه ، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما ، وليس من الضلال في الدين .
ومن هذا المعنى قوله هنا :
وأنا من الضالين ، أي : من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم ، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي ، لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي ، ومنه على التحقيق :
ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 3 ] أي : ذاهبا عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي .
ومن هذا المعنى قوله تعالى :
قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] فقوله :
لا يضل ربي ، أي : لا يذهب عنه علم شيء كائنا
[ ص: 90 ] ما كان ، وقوله تعالى :
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] فقوله :
أن تضل إحداهما ، أي : تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده :
فتذكر إحداهما الأخرى ، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب :
إن أبانا لفي ضلال مبين [ 22 \ 8 ] وقوله :
قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] على التحقيق في ذلك كله . ومن هذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
والإطلاق الثاني : وهو المشهور في اللغة ، وفي القرآن هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر ، وعن طريق الحق إلى الباطل ، وعن طريق الجنة إلى النار ، ومنه قوله تعالى :
غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] .
والإطلاق الثالث : هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال ، تقول العرب : ضل الشيء إذا غاب واضمحل ، ومنه قولهم : ضل السمن في الطعام ، إذا غاب فيه واضمحل ، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالا ; لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل .
ومن هذا المعنى قوله تعالى :
وقالوا أئذا ضللنا في الأرض الآية [ 32 \ 10 ] يعنون : إذا دفنوا وأكلتهم الأرض ، فضلوا فيها ، أي : غابوا فيها واضمحلوا .
ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن ، قول
نابغة ذبيان يرثي
النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني :
فإن تحي لا أملك حياتي وإن تمت فما في حياة بعد موتك طائل
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
وقول
المخبل السعدي يرثي
قيس بن عاصم :
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدهر قيس بن عاصم
فقول
الذبياني : فآب مضلوه ، يعني : فرجع دافنوه ، وقول
السعدي : أضلت ، أي : دفنت ، ومن إطلاق الضلال أيضا على الغيبة والاضمحلال قول
الأخطل :
[ ص: 91 ] كنت القذى في موج أكدر مزيد قذف الأتي به فضل ضلالا
وقول الآخر :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
وزعم بعض أهل العلم أن للضلال إطلاقا رابعا ، قال : ويطلق أيضا على المحبة ، قال : ومنه قوله :
قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] قال : أي في حبك القديم
ليوسف ، قال : ومنه قول الشاعر :
هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وزعم أيضا أن منه قوله :
ووجدك ضالا [ 93 \ 7 ] قال : أي محب للهداية فهداك ، ولا يخفى سقوط هذا القول ، والعلم عند الله تعالى .