قوله تعالى :
بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون . أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى :
بل ادارك علمهم ، أي : تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها ، أي : يعلمون في الآخرة علما كاملا ، ما كانوا يجهلونه في الدنيا ، وقوله :
بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، أي : في دار الدنيا ، فهذا الذي كانوا يشكون فيه في دار الدنيا ، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل ، يعلمونه في الآخرة علما كاملا لا يخالجه شك ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه من البعث والجزاء .
وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسرين في الآية ، لأن القرآن دل عليه دلالة واضحة في آيات متعددة ; كقوله تعالى :
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] فقوله :
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ، بمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا ، أي : يوم القيامة ، وهذا يوضح معنى قوله :
بل ادارك علمهم في الآخرة ، أي : تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت ، وقوله :
لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] يوضح معنى قوله :
بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، لأن ضلالهم المبين اليوم ، أي : في دار الدنيا ، هو شكهم في الآخرة ، وعماهم
[ ص: 123 ] عنها ; وكقوله تعالى :
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أي : علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد ، أي : قوي كامل .
وقد بينا في كتابنا " دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " الشورى " ، في الجواب عما يتوهم من التعارض بين قوله تعالى :
ينظرون من طرف خفي [ 42 \ 45 ] وقوله تعالى :
فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أن المراد بحدة البصر في ذلك اليوم : كمال العلم وقوة المعرفة . وقوله تعالى :
ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] فقوله :
إنا موقنون أي : يوم القيامة ، يوضح معنى قوله هنا :
بل ادارك علمهم في الآخرة ، وكقوله تعالى :
وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع [ 18 \ 48 ] فعرضهم على ربهم صفا يتدارك به علمهم ، لما كانوا ينكرونه ، وقوله :
بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شك وعمى عن البعث والجزاء كما ترى ، إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم أن قوله : بل ادارك ، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيتان ، فقد قرأه عامة السبعة غير
ابن كثير وأبي عمرو : بل ادارك بكسر اللام من بل وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل ، وأصله : تدارك بوزن : تفاعل ، وقد قدمنا وجه الإدغام ، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرآن ، وبعض شواهده العربية في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى :
فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 \ 117 ] وقرأه
ابن كثير وأبو عمرو : بل أدرك بسكون اللام من بل ، وهمزة قطع مفتوحة ، مع سكون الدال على وزن : أفعل .
والمعنى على قراءة الجمهور :
بل ادارك علمهم ، أي : تدارك بمعنى تكامل ; كقوله :
حتى إذا اداركوا فيها جميعا [ 7 \ 38 ] وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو : بل أدرك .
قال
البغوي : أي بلغ ولحق ، كما يقال : أدرك علمي إذا لحقه وبلغه ، والإضراب في قوله تعالى :
بل ادارك ،
بل هم في شك ،
بل هم منها عمون ، إضراب انتقالي ، والظاهر أن من في قوله تعالى :
بل هم منها عمون ، بمعنى : عن ،
[ ص: 124 ] و عمون جمع عم ، وهو الوصف من عمي يعمى فهو أعمى وعم ، ومنه قوله تعالى :
إنهم كانوا قوما عمين [ 7 \ 64 ] وقول
زهير في معلقته :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم