قوله تعالى :
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، المراد بالقرح الذي مس المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد من القتل والجرح ، كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله :
ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [ 3 \ 143 ] ، وقوله :
ويتخذ منكم شهداء الآية [ 3 \ 140 ] ، وقوله :
حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم [ 3 \ 152 ] ، وقوله :
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم [ 3 \ 153 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وأما المراد بالقرح الذي مس القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وعليه فإليه الإشارة بقوله :
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب [ 8 \ 12 \ 13 ] .
[ ص: 208 ] ويحتمل أيضا أنه هزيمة المشركين أولا يوم أحد ، كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، وقد أشار إلى القرحين معا بقوله :
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها [ 3 \ 165 ] ، فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أحد ، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسهم يوم بدر ; لأن المسلمين يوم أحد قتل منهم سبعون ، والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون .
وهذا قول الجمهور وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أحد من قتل وهزيمة ، حيث قتل حملة اللواء من
بني عبد الدار ، وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة ، وبقي لواؤهم ساقطا حتى رفعته
عمرة بنت علقمة الحارثية ، وفي ذلك يقول
حسان : [ الطويل ]
فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب
وعلى هذا الوجه : فالقرح الذي أصاب القوم المشركين يشير إليه قوله تعالى :
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه الآية [ 3 \ 152 ] . ومعنى تحسونهم : تقتلونهم ، وتستأصلونهم ، وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل ، ومنه قول
جرير :
[ الوافر ]
تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في أجم الحصيد
وقول الآخر : [ الطويل ]
حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وقول رؤبة : [ الرجز ]
إذا شكونا سنة حسوسا تأكل بعد الأخضر اليبيسا
يعني بالسنة الحسوس : السنة المجدبة التي تأكل كل شيء ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن الآية قد يكون فيها احتمالان ، وكل منهما يشهد له قرآن ، وكلاهما حق فنذكرهما معا ، وما يشهد لكل واحد منهما .
قال بعض العلماء : وقرينة السياق تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم أحد ; لأن الكلام في وقعة أحد ولكن التثنية في قوله : مثليها تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم بدر ; لأنه لم ينقل أحد أن الكفار يوم
[ ص: 209 ] أحد أصيبوا بمثلي ما أصيب به المسلمون ، ولا حجة في قوله : تحسونهم ; لأن ذلك الحس والاستئصال في خصوص الذي قتلوا من المشركين ، وهم أقل ممن قتل من المسلمين يوم أحد ، كما هو معلوم .
فإن قيل : ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله :
قرح مثله [ 3 \ 140 ] ، وبين التثنية في قوله :
قد أصبتم مثليها ، فالجواب والله تعالى أعلم أن المراد بالتثنية قتل سبعين وأسر سبعين يوم بدر في مقابلة سبعين يوم أحد ، كما عليه جمهور العلماء .
والمراد بإفراد المثل : تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم ، والقراءتان السبعيتان في قوله :
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح [ 3 \ 140 ] ، بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد فهما لغتان كالضعف والضعف .
وقال
الفراء : القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه اهـ . ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول
متمم بن نويرة التميمي :
[ الطويل ]
قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا