قوله تعالى :
ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار . الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي ، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلا هو ظن الذين كفروا بنا ، والنفي في قوله ما خلقنا ، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا ، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما : ليس خلقه للسماوات والأرض ، بل هو ثابت ، وإنما المنفي بها ، هو كونه باطلا ، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة ; لأن النفي منصب عليها هي خاصة ، والكلام لا يصح دونها . والكلام في هذا معلوم في محله ، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلا نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون ، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى .
أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى :
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 23 \ 115 ] .
[ ص: 342 ] ثم نزه نفسه ، عن كونه خلقهم عبثا ، بقوله تعالى :
فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 116 ] أي : تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثا .
وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك ، ففي قوله تعالى :
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيها لك ، عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلا . فقولهم سبحانك تنزيه له ، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى :
فتعالى الله الملك الحق الآية [ 23 \ 116 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية :
فويل للذين كفروا من النار يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا ، فله النار .
وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أرداه وجعله من الخاسرين ، وجعل النار مثواه . وذلك في قوله تعالى :
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم الآية [ 41 \ 22 - 24 ] .
وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، وبينا هناك أن الفعل نوعان ، أحدهما الفعل الحقيقي ، والثاني الفعل الصناعي ، أما الفعل الحقيقي ، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر .
وأما الفعل الصناعي ، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي ، والفعل المضارع ، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع .
ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين ، عن مصدر وزمن ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
[ ص: 343 ] المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن
وعند جماعات من البلاغيين ، أنه ينحل عن مصدر ، وزمن ونسبة ، وهو الأقرب ، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية ، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر والزمن كامنان في الفعل الصناعي ، فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي .
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل ، قوله هنا :
ذلك ظن الذين كفروا الآية ، فإن المصدر الذي هو الخلق كامن في الفعل الصناعي ، الذي هو الفعل الماضي في قوله :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا .
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي ، قوله تعالى :
ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد [ 50 \ 20 ] أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد .
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى :
اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] فقوله : هو ، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا ، كما تقدم إيضاحه .