قوله تعالى :
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . أظهر الأقوال في الآية الكريمة ، أن المراد بالقول ، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، من وحي الكتاب والسنة ، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى :
أفلم يدبروا القول الآية [ 23 \ 68 ] . وقوله تعالى :
إنه لقول فصل وما هو بالهزل [ 86 \ 13 - 14 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :
فيتبعون أحسنه [ 39 \ 18 ] أي : يقدمون الأحسن ، الذي هو أشد حسنا ، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن ، ويقدمون الأحسن مطلقا على الحسن . ويدل لهذا آيات من كتاب الله .
أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع . ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى :
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] وقوله تعالى
لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة :
فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها [ 7 \ 145 ] .
وأما
كون القرآن فيه الأحسن والحسن ، فقد دلت عليه آيات من كتابه .
واعلم أولا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب ، وأن المندوب أحسن من
[ ص: 357 ] مطلق الحسن ، فإذا سمعوا مثلا قوله تعالى :
وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [ 22 \ 77 ] قدموا فعل الخير الواجب ، على فعل الخير المندوب ، وقدموا هذا الأخير ، على مطلق الحسن الذي هو الجائز ، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، لا على مطلق الحسن ، كما قال تعالى :
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] وقال تعالى
ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [ 39 \ 35 ] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى :
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن ، كما قال صاحب المراقي :
ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى :
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] فالأمر في قوله :
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به للجواز ، والله لا يأمر إلا بحسن . فدل ذلك على أن الانتقام حسن ، ولكن الله بين أن العفو والصبر ، خير منه وأحسن في قوله :
ولئن صبرتم لهو خير للصابرين وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى في إباحة الانتقام :
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [ 42 \ 43 ] ، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه ، في قوله بعده :
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، وكقوله في جواز الانتقام :
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه ، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده :
إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] . وكقوله جل وعلا مثنيا على من تصدق ، فأبدى صدقته :
إن تبدوا الصدقات فنعما هي [ 2 \ 271 ] ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء ، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد ، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم ، في قوله :
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ 2 \ 271 ] .
[ ص: 358 ] وكقوله في نصف الصداق اللازم ، للزوجة بالطلاق ، قبل الدخول ،
فنصف ما فرضتم [ 2 \ 237 ] ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن ، لأن الله شرعه في كتابه في قوله :
فنصف ما فرضتم مع أنه رغب كل واحد منهما ، أن يعفو للآخر عن نصفه ، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعده
وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم [ 2 \ 237 ] .
وقد قال تعالى :
وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ثم أرشد إلى الأحسن بقوله :
فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ 42 \ 40 ] وقال تعالى :
والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] ثم أرشد إلى الأحسن ، في قوله :
فمن تصدق به فهو كفارة له [ 5 \ 45 ] .
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالا غير الذي اخترنا .
منها ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، في معنى
فيتبعون أحسنه قال : " هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن ، وينكف عن القبيح ، فلا يتحدث به " .
وقيل يستمعون القرآن وغيره ، فيتبعون القرآن .
وقيل : إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله ، وبعض من يقول بهذا يقول : إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ،
كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي ،
nindex.php?page=showalam&ids=1584وأبي ذر الغفاري ،
nindex.php?page=showalam&ids=23وسلمان الفارسي ، إلى غير ذلك من الأقوال .