قوله - تعالى - :
وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم .
لعلماء التفسير في تفسير قوله : قيضنا عبارات يرجع بعضها في المعنى إلى بعض .
كقول بعضهم :
وقيضنا لهم قرناء أي جئناهم بهم ، وأتحناهم لهم .
وكقول بعضهم : قيضنا أي هيأنا .
وقول بعضهم : قيضنا أي سلطنا .
وقول بعضهم : أي بعثنا ووكلنا .
وقول بعضهم : قيضنا أي سببنا .
وقول بعضهم : قدرنا . ونحو ذلك من العبارات; فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد ، وهو أن
الله - تبارك وتعالى - هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ، ويزينون لهم الكفر والمعاصي ، وقدرهم عليهم .
والقرناء : جمع قرين ، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق .
وقوله
فزينوا لهم ما بين أيديهم - أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة -
[ ص: 27 ] وما خلفهم أي من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التكذيب به ، وإنكار البعث .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - قيض للكفار قرناء من الشياطين ، يضلونهم عن الهدى - بينه في مواضع أخر من كتابه .
وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم ، وأنهم مع إضلالهم لهم يظنون أنهم مهتدون ، وأن
الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم ، وأنه يذمه ذلك اليوم ، كما قال - تعالى - :
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 36 - 38 ] .
فترتيبه قوله : ( نقيض له شيطانا ) على قوله : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) - ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن .
ونظير ذلك قوله - تعالى - :
من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس ، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس ، من قولهم : خنس - بالفتح - يخنس - بالضم - إذا تأخر .
فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن ، خناس عند ذكر الرحمن ، كما دلت عليه آية " الزخرف " المذكورة ، ودل عليه قوله - تعالى - :
إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون - غافلون عن ذكر الرحمن ، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم .
ومن الآيات الدالة على
تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم ، قوله - تعالى - :
أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - :
أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين الآية . وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى
تؤزهم أزا .
وبينا أيضا هناك أن من الآيات الدالة على ذلك . قوله - تعالى - :
ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس [ 6 \ 128 ] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا ، وقوله :
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] .
[ ص: 28 ] ومنها أيضا قوله - تعالى - :
ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إلى قوله :
ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 60 - 62 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد دل قوله في آية " الزخرف " :
فبئس القرين [ 43 \ 38 ] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية " فصلت " وآية " الزخرف " وغيرهما - جديرين بالذم الشديد ، وقد صرح - تعالى - بذلك في سورة " النساء " في قوله :
ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا [ 4 \ 38 ] لأن قوله :
فساء قرينا بمعنى
فبئس القرين ; لأن كلا من " ساء " و " بئس " فعل جامد لإنشاء الذم ، كما ذكره في الخلاصة بقوله :
واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
واعلم أن الله - تعالى - بين أن الكفار الذي أضلهم قرناؤهم من الشياطين - يظنون أنهم على هدى ، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى ، كما قال - تعالى - عنهم :
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] وقال - تعالى - :
إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] .
وبين - تعالى - أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالا ، في قوله - تعالى - :
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ 18 \ 103 - 104 ] .
وقوله - تعالى - في آية " الزخرف " :
ومن يعش عن ذكر الرحمن [ 43 \ 36 ] من قولهم : عشا - بالفتح - عن الشيء يعشو - بالضم - إذا ضعف بصره عن إدراكه ; لأن الكافر أعمى القلب ، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن ، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين .