قوله - تعالى - :
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى . قد بينا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - :
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا الآية [ 11 \ 29 ] - أن جميع الرسل - عليهم الصلوات والسلام - لا يأخذون أجرا على التبليغ ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك .
وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين تلك الآيات وآية " الشورى " هذه ، فقلنا فيه :
اعلم أولا أن في قوله - تعالى - :
إلا المودة في القربى أربعة أقوال : الأول : ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وبه قال
مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره - أن معنى الآية
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - له في كل بطن من
قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس
[ ص: 70 ] بأجر على التبليغ ; لأنه مبذول لكل أحد ; لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس .
وقد فعل له ذلك
أبو طالب ولم يكن يسأل أجرا على التبليغ ; لأنه لم يؤمن .
وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر - تحقق أنه لا يسأل أجرا ، كقول
النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم .
وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، وعليه فلا إشكال .
الثاني : أن معنى الآية
إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي ، واحفظوني فيهم ، ويروى هذا القول عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=16709وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين ، وعليه فلا إشكال أيضا .
لأن
المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال - تعالى - :
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . وفي الحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009388مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وقال - صلى الله عليه وسلم - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007959لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا .
وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين ، تبين أنه غير عوض عن التبليغ .
وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .
فمعناه على القول الأول
لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم .
وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي ، فاحفظوني فيهم .
القول الثالث - وبه قال
الحسن - : (
إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى الله ، وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ; لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .
[ ص: 71 ] القول الرابع : (
إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير هذا القول عن
عبد الله بن قاسم ، وعليه أيضا فلا إشكال .
لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .
وأما القول بأن قوله - تعالى - :
إلا المودة في القربى - منسوخ بقوله - تعالى - :
قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] - فهو ضعيف ، والعلم عند الله - تعالى - . انتهى منه .
وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية .
مع أن كثيرا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية ، فيحسبون أن معنى
إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في أهل قرابتي .
وممن ظن ذلك
محمد السجاد ; حيث قال لقاتله يوم الجمل : أذكرك " حم " يعني سورة " الشورى " هذه ، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلزم حفظه فيهم ; لأن الله - تعالى - قال في " حم " هذه :
إلا المودة في القربى فهو يريد المعنى المذكور ، يظنه هو المراد بالآية ، ولذا قال قاتله في ذلك :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة " هود " ، وذكرنا أن
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ذكر البيت المذكور في سورة " المؤمن " ، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل
محمدا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم
الجمل ، هل هو
شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، أو
nindex.php?page=showalam&ids=13707الأشتر النخعي ، أو
عصام بن مقشعر ، أو
مدلج بن كعب السعدي ، أو
كعب بن مدلج .
وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه
محمد السجاد المذكور - الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب
والتحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية هو القول الأول
إلا المودة في القربى [ ص: 72 ] أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما هو شأن أهل القرابات .