قوله - تعالى - :
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون .
قرأ هذا الحرف
نافع وابن عامر nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ( يصدون ) بضم الصاد .
وقرأه
ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ( يصدون ) بكسر الصاد .
[ ص: 123 ] فعلى قراءة الكسر فمعنى ( يصدون ) يضجون ويصيحون ، وقيل : يضحكون ، وقيل : معنى القراءتين واحد ، كيعرشون ويعرشون ، ويعكفون ويعكفون .
وعلى قراءة الضم فهو من الصدود ، والفاعل المحذوف في قوله : ( ضرب ) قال جمهور المفسرين هو
عبد الله بن الزبعرى السهمي قبل إسلامه .
أي ولما ضرب
ابن الزبعرى المذكور
عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك ، فرحا منهم وزعما منهم أن
ابن الزبعرى خصمك ، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل .
والظاهر أن لفظة ( من ) هنا سببية ، ومعلوم أن أهل العربية يذكرون أن من معاني ( من ) السببية ، ومنه قوله - تعالى - :
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] . أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا .
ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة : أقسم بالله لمن ضربه مات .
وإيضاح معنى ضرب
ابن الزبعرى عيسى مثلا - أن الله لما أنزل قوله - تعالى - :
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] قال
ابن الزبعرى : إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن كل معبود من دون الله في النار ، وإننا وأصنامنا جميعا في النار ، وهذا
عيسى ابن مريم قد عبده
النصارى من دون الله ، فإن كان
ابن مريم مع
النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه .
وقالوا مثل ذلك في
عزير والملائكة ; لأن
عزيرا عبده
اليهود ، والملائكة عبدهم بعض العرب .
فاتضح أن ضربه
عيسى مثلا ، يعني أنه على ما يزعم أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - قاله ، من أن كل معبود وعابده في النار ، يقتضي أن يكون
عيسى مثلا لأصنامهم ، في كون الجميع في النار ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني على
عيسى الثناء الجميل ، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه .
فزعم
ابن الزبعرى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اقتضى مساواة الأصنام مع
عيسى في دخول
[ ص: 124 ] النار مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يعترف بأن
عيسى رسول الله ، وأنه ليس في النار ، دل ذلك على بطلان كلامه عنده .
وعند ذلك أنزل الله
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 101 - 103 ] . وأنزل الله أيضا قوله - تعالى - :
ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية .
وعلى هذا القول فمعنى قوله - تعالى - :
ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا
عيسى مثلا إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل .
وقيل : إن ( جدلا ) حال ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، وقد أوضحنا توجيهه مرارا .
والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق .
قال جماعة من العلماء : والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل ، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموه ، وهم أهل اللسان ، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات .
والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة " ما " التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء ; لأنه قال :
إنكم وما تعبدون [ 21 \ 98 ] ولم يقل : ومن تعبدون ، وذلك صريح في أن المراد الأصنام ، وأنه لا يتناول
عيسى ولا
عزيرا ولا الملائكة ، كما أوضح - تعالى - أنه لم يرد ذلك بقوله - تعالى - بعده :
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ 21 \ 101 ] .
وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول
عيسى بمقتضى لسانهم العربي ، الذي نزل به القرآن - تحققنا أنهم ما ضربوا
عيسى مثلا إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل .
ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله :
ما ضربوه لك إلا جدلا مع أن ضارب المثل واحد وهو
ابن الزبعرى - يرجع إلى أمرين : أحدهما : أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع
[ ص: 125 ] القبيلة ، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
فإنه نسب الضرب إلى جميع
بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم ، وهو
ورقاء بن زهير ، والشاعر يشير بذلك إلى قتل
خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي ، وأن
ورقاء بن زهير ضرب بسيف
بني عبس رأس
خالد بن جعفر الكلابي ، الذي قتل أباه ونبا عنه ، أي لم يؤثر في رأسه ، فإن معنى : نبا السيف - ارتفع عن الضريبة ولم يقطع .
والشاعر يهجو بني عبس بذلك .
والحروب التي نشأت عن هذه القصة وقتل
الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور ، كل ذلك معروف في محله .
والأمر الثاني : أن جميع
كفار قريش صوبوا ضرب
ابن الزبعرى عيسى مثلا ، وفرحوا بذلك ، ووافقوه عليه ، فصاروا كالمتمالئين عليه .
وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله :
فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] وقوله :
فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] وبين صيغة الإفراد في قوله :
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] .
وقال بعض العلماء : الفاعل المحذوف في قوله : (
ولما ضرب ابن مريم مثلا ) هو عامة
قريش .
والذين قالوا : إن
كفار قريش لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر
عيسى ، وسمعوا قول الله - تعالى - :
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما تريد بذكر
عيسى إلا أن نعبدك كما عبد
النصارى عيسى .
وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا
عيسى مثلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادة الناس لكل منهما ، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد
عيسى .
وعلى هذا القول فمعنى قوله :
ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا لك هذا
[ ص: 126 ] المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل ، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه .
وقوله - تعالى - :
قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 \ 64 ] .
وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا قبل الهجرة ، كما هو معلوم .
وكذلك قوله :
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .
ولا شك أن
كفار قريش متيقنون في جميع المدة التي أقامها - صلى الله عليه وسلم - في
مكة قبل الهجرة بعد الرسالة ، وهي ثلاث عشرة سنة - أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم ، وهم يعلمون أنهم مفترون في ذلك .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة :
أآلهتنا خير أم هو ؟
التحقيق أن الضمير في قوله : هو راجع إلى
عيسى ، لا إلى
محمد - عليهما الصلاة والسلام - .
قال بعض العلماء : ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على
عيسى .
قيل : لأنهم يتخذون الملائكة آلهة ، والملائكة أفضل عندهم من
عيسى .
وعلى هذا فمرادهم أن
عيسى عبد من دون الله ، ولم يكن ذلك سببا لكونه في النار ، ومعبوداتنا خير من
عيسى ، فكيف تزعم أنهم في النار ؟
وقال بعض العلماء : أرادوا تفضيل
عيسى على آلهتهم .
والمعنى على هذا أنهم يقولون :
عيسى خير من آلهتنا ، أي في زعمك ، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله :
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ 21 \ 98 ] .
وعيسى عبده
النصارى من دون الله ، فدلالة قولك على أن
عيسى في النار ، مع
[ ص: 127 ] اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أنا وآلهتنا في النار - ليس بحق أيضا .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة :
بل هم قوم خصمون أي لد ، مبالغون في الخصومة بالباطل ، كما قال - تعالى - :
وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] أي شديدي الخصومة .
وقوله - تعالى - :
وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] لأن الفعل بفتح فكسر كخصم - من صيغ المبالغة ، كما هو معلوم في محله .
وقد علمت مما ذكرنا أن قوله - تعالى - هنا :
ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية - إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه .
ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها .
فعلى القول الأول ، أنهم ضربوا
عيسى مثلا لأصنامهم في دخول النار ، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله - تعالى - قبلها :
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ; لأنها لما نزلت قالوا : إن
عيسى عبد من دون الله كآلهتهم ، فهم بالنسبة لما دلت عليه - سواء .
وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفا .
وعلى القول الثاني أنهم ضربوا
عيسى مثلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن
عيسى قد عبد ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعبد كما عبد
عيسى ، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله - تعالى - :
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] . وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن
عيسى - يوضح المراد بالمثل .
وأما الآيات التي بينت قوله :
ما ضربوه لك إلا جدلا فبيانها له واضح على كلا القولين . والعلم عند الله - تعالى - .