قوله تعالى :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
الآية .
قال بعض العلماء : المراد بالقصر في قوله :
أن تقصروا في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ، ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن ، كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة ، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى ، وكصلاتهم إيماء رجالا وركبانا وغير متوجهين إلى القبلة ، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها .
قوله تعالى بعده يليه مبينا له :
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم الآية [ 4 \ 102 ] ، وقوله تعالى :
فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ 2 \ 239 ] ، ويزيده إيضاحا أنه قال هنا :
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وقال في آية البقرة :
فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون [ 2 \ 239 ] ; لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف .
وعلى هذا التفسير الذي دل له القرآن فشرط الخوف في قوله :
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، معتبر أي : وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها ، بل صلوها على أكمل الهيئات ، كما صرح به في قوله :
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وصرح باشتراط الخوف أيضا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله :
فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ، ثم قال :
فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم الآية يعني : فإذا أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها ، وقيامها وقعودها على أكمل هيئة وأتمها ، وخير ما يبين القرآن القرآن ،
[ ص: 249 ] ويدل على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا ، أن
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله : باب صلاة الخوف ، وقول الله تعالى :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا [ 4 \ 101 ، 102 ] ، وما ذكره
ابن حجر وغيره من أن
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ساق الآيتين في الترجمة ; ليشير إلى
خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولا ، وبالسنة فعلا ، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله :
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، ويؤيده أيضا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن ، كما وقع في حجة الوداع وغيرها ، وكما
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007252قال - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة : " أتموا فإنا قوم سفر " .
وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية :
مجاهد ،
والضحاك ،
والسدي ، نقله عنهم
ابن كثير وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبي بكر الرازي الحنفي . ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير نحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ولما نقل
ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال : واعتضدوا بما رواه الإمام
مالك عن
nindex.php?page=showalam&ids=16214صالح بن كيسان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة بن الزبير ، عن
عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر " .
وقد روى هذا الحديث
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=16475عبد الله بن يوسف التنيسي ،
ومسلم عن
يحيى بن يحيى ،
وأبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=15020القعنبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي عن
قتيبة أربعتهم عن
مالك به قالوا : " فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية ؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه :
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام
أحمد ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع ،
وسفيان ،
[ ص: 250 ] وعبد الرحمن عن
nindex.php?page=showalam&ids=15914زبيد اليامي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16330عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن
عمر - رضي الله عنه - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007253صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " .
وهكذا رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان في " صحيحه " من طرق عن
nindex.php?page=showalam&ids=15914زبيد اليامي به ، وهذا إسناد على شرط
مسلم ، وقد حكم
مسلم في مقدمة كتابه بسماع
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى عن
عمر ، وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، وإن كان
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين ،
وأبو حاتم ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه .
وعلى هذا أيضا فقال : فقد وقع في بعض طرق
nindex.php?page=showalam&ids=12201أبي يعلى الموصلي ، من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري عن
زبيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16330عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الثقة عن
عمر فذكره ، وعند
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه من طريق
يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن
زبيد ، عن
عبد الرحمن ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة ، عن
عمر فالله أعلم .
وقد روى
مسلم في " صحيحه " ،
وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12118أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد
مسلم ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ،
وأيوب بن عائذ ، كلاهما عن
بكير بن الأخنس عن
مجاهد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007254فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر " .
ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس نفسه فهذا
ثابت عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا ينافي ما تقدم عن
عائشة رضي الله عنها ; لأنها أخبرت " أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع " ، كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، والله أعلم .
ولكن اتفق حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث
عمر - رضي الله عنه - واعلم أن حديث
عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات :
الأولى : أنه معارض بالإجماع . قال القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12815أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى " بالقبس " . قال علماؤنا هذا الحديث مردود بالإجماع .
الثانية : أنها هي خالفته ،
والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضي الله عنها
[ ص: 251 ] كانت تتم في السفر ، قالوا : ومخالفتها لروايتها توهن الحديث .
الثالثة : إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم .
الرابعة : أن غيرها من الصحابة خالفها ،
كعمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=67وجبير بن مطعم ، فقالوا : " إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة " ، وقد قدمنا رواية
مسلم وغيره له عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
الخامسة : دعوى أنه مضطرب ; لأنه رواه
nindex.php?page=showalam&ids=17000ابن عجلان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16214صالح بن كيسان ، عن
عروة ، عن
عائشة ، قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007255فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ركعتين " ، وقال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب ، عن
عروة ، عن
عائشة ، قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007255فرض الله الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ركعتين " الحديث . قالوا : فهذا اضطراب .
السادسة : أنه ليس على ظاهره ; لأن المغرب ، والصبح لم يزد فيهما ، ولم ينقص .
السابعة : أنه من قول
عائشة لا مرفوع .
الثامنة : قول
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين : لو صح لنقل متواترا .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذه الاعتراضات الموردة على حديث
عائشة المذكور كلها ساقطة ، أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها ; لأنه لا يصح فيه إجماع وذكر
ابن العربي نفسه الخلاف فيه .
وقال
القرطبي بعد ذكر دعوى
ابن العربي الإجماع المذكور قلت : وهذا لا يصح ، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع .
وأما معارضته بمخالفة
عائشة له فهي أيضا ظاهرة السقوط ; لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور ، وقد بيناه في سورة " البقرة " في الكلام على حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس المتقدم في الطلاق .
وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في
صلاة المسافر خلف المقيم ، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد ، والنية ، واحتجوا
[ ص: 252 ] بحديث : "
لا تختلفوا على إمامكم " وممن ذهب إلى ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=15858وداود الظاهري وغيرهم .
وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها
nindex.php?page=showalam&ids=11كابن عباس ، فجوابه ما قدمناه آنفا عن
ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط ; لأنه ليس فيه اضطراب أصلا ، ومعنى فرض الله وفرض رسول الله واحد ; لأن الله هو الشارع والرسول هو المبين ، فإذا قيل فرض رسول الله كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن الله فلا ينافي أن الله هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى :
من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، ونظيره حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007256إن إبراهيم حرم مكة " مع حديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007257إن مكة حرمها الله " الحديث .
وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر ، مع أن بعض الروايات عن
عائشة عند
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ،
والبيهقي . قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007258فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان ، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب ; لأنها وتر النهار " وعند
أحمد من طريق
ابن كيسان في حديث
عائشة المذكور " إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا " .
وهذه الروايات تبين أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر ، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط ; لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع ، ولو سلمنا أن
عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنها معه ، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل .
وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترا فهو ظاهر السقوط ; لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر ، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن
عائشة nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وعمر - رضي الله عنهم - فاعلم أن
ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن
عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
وعائشة قال ما نصه :
وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله :
فليس عليكم جناح [ 4 \ 101 ] ، أن
[ ص: 253 ] تقصروا من الصلاة قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ; ولهذا قال :
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا الآية . ولهذا قال بعدها :
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الأية [ 4 \ 102 ] . فبين المقصود من القصر هاهنا ، وذكر صفته وكيفيته . اه محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدا فيما ذكرنا وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير .