1. الرئيسية
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
  3. سورة النساء
  4. قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
صفحة جزء
وعلى هذا القول ، فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرآن ، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أخر :

أحدها : أن معنى أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفا من حديث ابن عباس عند مسلم ، والنسائي ، وأبي داود ، وابن ماجه ، وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس .

وقد روى نحوه أبو داود ، والنسائي من حديث حذيفة قال : " فصلى بهؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا " ورواه النسائي أيضا من حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة ، الثوري وإسحاق ومن تبعهما . وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، والضحاك .

وقال بعضهم : يصلى الصبح في الخوف ركعة ، وإليه ذهب ابن حزم ، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف .

قال أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف .

وعلى هذا القول ، فالقصر في قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] ، قصر كمية .

وقال جماعة : إن المراد بالقصر في قوله : أن تقصروا من الصلاة ، هو قصر الصلاة في السفر . قالوا : ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ; لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ [ ص: 254 ] الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة .

وقد تقرر في الأصول ، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب ، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله : اللاتي في حجوركم [ 4 \ 23 ] ; لجريانه على الغالب .

قال في " مراقي السعود " : في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]


أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب



واستدل من قال : إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في " صحيحه " ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة ، عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فقد أمن الناس ، قال : عجبت ما عجبت منه ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .

فهذا الحديث الثابت في " صحيح مسلم " ، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على فهمه لذلك ، وهو دليل قوي ، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال : " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - " ويؤيده حديث عائشة ، وحديث ابن عباس المتقدمان .

وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف ، كما قدمنا ، والله تعالى أعلم ، وهيئات صلاة الخوف كثيرة ، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة ، وتارة إلى غيرها ، والصلاة قد تكون رباعية ، وقد تكون ثلاثية ، وقد تكون ثنائية ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم القتال ، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالا ، وركبانا مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها ، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة ، وهيئاتها ، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع ، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء الله .

أما مالك بن أنس ، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة في الثنائية ، وركعتين في الرباعية والثلاثية ، ثم تتم باقي الصلاة ، وهو اثنتان في الرباعية ، وواحدة في الثنائية والثلاثية ، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو ، وتأتي [ ص: 255 ] الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائما ينتظرهم ، وهو مخير في قيامه بين القراءة ، والدعاء ، والسكوت إن كانت ثنائية ، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية ، وقيل : ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسا فيصلي بهم باقي الصلاة ، وهو ركعة في الثنائية ، والثلاثية ، وركعتان في الرباعية ، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه ، وهو ركعة في الثنائية ، وركعتان في الرباعية والثلاثية . فتحصل أن هذه الصورة ، أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين ، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ، ويقفون في وجه العدو ، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي ، ويسلم ويتمون لأنفسهم .

قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا : وحديث القاسم أشبه بالقرآن ، وإلى الأخذ به رجع مالك . اهـ .

قال مقيده - عفا الله عنه - : مراد ابن يونس ، أن الحديث الذي رواه مالك في " الموطأ " ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، بالكيفية التي ذكرنا ، هو الذي رجع إليه مالك ، ورجحه أخيرا على ما رواه ، أعني مالكا ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف . الحديث ، والفرق بين رواية القاسم بن محمد ، وبين رواية يزيد بن رومان ، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في " الموطأ " ، أنه يصلي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم .

قال ابن عبد البر مشيرا إلى الكيفية التي ذكرنا ، وهي رواية القاسم بن محمد ، عند مالك ، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان ، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات : إن الإمام لا ينتظر المأموم ، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام ، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في ( الموطأ ) موقوف على سهل ، إلا أن له حكم الرفع ; لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي ; لأن سهلا كان صغيرا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزم الطبري ، وابن حبان ، وابن السكن ، وغيرهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وسهل المذكور ابن ثمان سنين ، وزعم ابن حزم أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك ، ورواها في " موطئه " عن القاسم بن محمد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف . [ ص: 256 ] قال أولا : بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ، ثم تتم لأنفسها ، ثم تسلم ، ثم يصلي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم ، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى ، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه ، كما بينا .

والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي ، رضي الله عنه ، لا سهل بن أبي حثمة ، كما قاله بعضهم .

قال الحافظ في " الفتح " : ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير ; لأن أبا أويس ، روى هذا الحديث ، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال : عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، أخرجه ابن منده في " معرفة الصحابة " من طريقه ، وكذلك أخرجه البيهقي ، من طريق عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، وجزم النووي في " تهذيبه " بأنه أبوه خوات ، وقال : إنه محقق من رواية مسلم وغيره ، قلت : وسبقه إلى ذلك الغزالي ، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير . اه محل الغرض منه بلفظه .

ولم يفرق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها ، وأما إذا اشتد الخوف والتحم القتال ، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالا وركبانا إيماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، كما نص عليه تعالى بقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية [ 2 \ 239 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية